تنضم ليبيا الآن إلى عقد الدول العربية التى نجحت ثورتها الشعبية الديمقراطية فى إنهاء حكم جلادها. وتقف شقيقتنا العربية مرفوعة الرأس وقد خاضت طريقا وعرة لإنجاز هذا الحلم، الذى سالت فى سبيله دماء ذكية بسبب السلوك البربرى للديكتاتور المخلوع، وجرى خلالها تدويل الصراع عبر التدخل الدولى من قبل حلف شمال الأطلنطى لصالح القوى الثورية. واليوم تقف ليبيا المحررة من أسر الاستبداد أمام مفترق طريق، تواجه الثوارَ فيه تحديات كبرى. والمجلس الوطنى الذى يرأسه مصطفى عبد الجليل يحمل على كاهله مسؤوليات جساما لإعداد البلاد لمرحلة ما بعد الاستبداد القذافى، وهى مرحلة بالغة الحساسية يتوجب فيها خلق مناخ سياسى يتيح تداولا حقيقيا للسلطة، وانفتاحا ييسر للقوى السياسية كافة الدخول فى عملية ديمقراطية تتسم بالنزاهة والفاعلية. ويبعد بليبيا عن شبح السقوط فى صراع على السلطة.
ولعل نقطة البدء المنطقية التى على عبد الجليل وصحبه التحرك منها هى التحول من شكل المجلس الثورى المنخرط فى نضال تحررى ضد النظام، لشكل الحكومة الانتقالية التى تعيد البناء.
ولا حاجة إلى القول إن هذه الحكومة لا بد لها من أن تكون حكومة للبناء التنموى ولمّ الشمل. فحكومة وحدة وطنية، قوامها القوى الثورية الأساسية، والكفاءات الوطنية القادرة على إدارة البلاد، سيعقد عليها الشعب الليبى آماله، وستضطلع بحزمة من المهام الصعبة، على رأسها إعادة تشكيل بيروقراطية الدولة ومؤسساتها وفق برنامج طموح لإصلاح مؤسسى، ييسر نهوض المؤسسات الدستورية والتنفيذية (شبه المنهارة الآن) واستعادتها عافيتها وقدرتها على بسط سلطتها فوق رقعة الدولة، خصوصا مؤسسات الأمن والعدالة، علاوة على الخدمات العامة الأساسية، على نحو ينهى أشكال الإدارة الشعبية المؤقتة، وتكونات ما دون الدولة التى نشأت فى أجواء الحرب. ولعل المهمة الأصعب هى المهمة الدستورية، وتبنى مدخل دستورى يكفل انفراجة اجتماعية وتحولا سياسيا حقيقيا، يسمح بانتقال سلس وآمن للسلطة ليد حكومة منتخبة لأول مرة فى ليبيا. ولا بد ها هنا لهذه الحكومة الانتقالية من تبنى إطار يكفل الإحكام القانونى لسلطتها، ويضع ضمانات حقيقية لعدم انحراف المجلس الانتقالى عن الوجهة الديمقراطية، ويحد من أطماع قد تساور البعض فى الهيمنة السياسية افتئاتا على قيم الثورة التى من أولوياتها صون حق الشعب الليبى فى اختيار من يحكمه.
وجدير بالذكر أن جزءا من القبول الدولى للمجلس الانتقالى قد تشكل استنادا إلى تعهده بتسليم قيادة البلاد لسلطة وطنية منتخبة دستوريا. وسمعت فى المحافل الدولية تصريحات رئيس المجلس ومستشاره القانونى وغيرهما من مسؤولى المجلس الانتقالى، بالتعهد بأن مدى الحكم الانتقالى لن يتخطى عاما، مع التزام صريح بإصدار إعلان دستورى فور التخلص من القذافى -جريا على العادة التى رسختها ثورتا تونس ومصر- بحيث يشتمل على مبادئ تحمى الحريات العامة والانفتاح السياسى، مع جدول أعمال انتقالى تتشكل بموجبه حكومة لإدارة المرحلة الانتقالية فى غضون شهر، ووضع قوانين للانتخابات والحريات السياسية فى غضون ثلاثة أشهر، على أن تجرى انتخابات برلمانية بعد ثمانية أشهر، تليها انتخابات رئاسية، وهى الانتخابات التى تعهد أعضاء المجلس الانتقالى بعدم المنافسة فيها.
وهى خطوة جيدة، لكن تلزمها آلية معتبرة لبناء التوافق حول المبادئ والقيم الحاكمة للتحول وتحديد ماهية توجهات الإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى البلاد، بعد حكم شمولى احتكر السلطة والثروة. آلية تضمن المشاركة الواسعة من كل الطيف السياسى والاجتماعى فى ليبيا فى رسم المستقبل دون استبعاد أى فصيل. ولعل آلية المؤتمر الوطنى للحوار (التى نادى بها بعض القوى الليبية) هى الأكثر مناسبة فى هذا الصدد. ويتوقف نجاحها على قدرة القائمين عليها على بناء التوافق العام حول توجهات التغيير، وصهر المطالب والتطلعات المختلفة فى صورة إطار موحد للعمل الوطنى. ونواتج المؤتمر (الذى يتوجب إدارته على نحو مبدع وبآليات تتسم بالذكاء) ستشكل نواة الدستور الديمقراطى وستسمح بتدشين عملية سياسية متكاملة لتداول السلطة مع إطلاق الحريات السياسية فى ليبيا، وعلى وجه الخصوص الحق فى تنظيم وبدء إنشاء الأحزاب والنقابات لأول مرة.
ولا بد لحكومة عبد الجليل كذلك من الدفع بحزمة من مبادرات الإصلاح السريع تقيم ما هدمته الحرب. ومنها مبادرات العدالة والقيام بإجراءات تحد من الميول العنيفة للانتقام، فى مجتمع قوامه الاجتماعى قبَلى. فتجاوز الإحن القبلية، التى استثمر القذافى كثيرا فى صنعها لصالح تسيده على الجميع، من الضرورة بمكان، إذ إن دعاوى الثأر القبلى التى قد ترتفع وتيرتها ستعيد هذه الثورة إلى نقطة الصفر، نقطة الحرب الأهلية. وهنا يجدر تبنى الحكومة مفاهيم العدالة الانتقالية التى لا غنى عنها لتجاوز محن عصر القذافى، وإنهاء ملامح الفساد والاستبداد التى كرسها فى بنيان الدولة، مع تدشين فاعليات كبرى للمصارحة والمصالحة ترأب الصدوع التى خلفتها الحرب.
ولعل من المفيد ها هنا اتخاذ موقف واضح بشأن التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية التى أصدرت مذكرة توقيف بحق القذافى وأبنائه وبعض من رموز حكمه على خلفية تلك الجرائم الدموية التى ارتكبوها بحق أبناء الشعب الليبى. هذا الأمر جد دقيق، وظنى أنه من اللائق البدء بمناشدة المحكمة الدولية بأن تتم أعمال محاكمة رموز النظام الساقط عبر نظم العدالة الداخلية الليبية، وبما يسمح بمتابعة ومعاونة من قبل المحكمة الدولية. فإقامة العدالة عبر النظم الوطنية يمثل قوة دفع حقيقية لأى تجربة ديمقراطية جديدة فهى ترسخ حكم القانون، وتثبت قواعده، وتبعث أيضا برسالة مفادها أن الشعوب تحاكم حتما جلاديها، وهى ذات الرسالة التى تشكل روح المحكمة الجنائية الدولية.
لا بد كذلك من عملية جراحية عاجلة لتحديث الاقتصاد الليبى، وإحداث تغييرات على النمط الاقتصادى القائم شكليا على السيطرة الكاملة للدولة على أدوات الإنتاج، وواقعيا على سيطرة ثلة من أشياع القذافى وحوارييه امّحت الحدود بين ذمتها المالية الخاصة وملكية الدولة. إن تحولا محسوبا ودقيقا يضع بذور رأسمالية وطنية حقيقية، تعاون القطاع العام سيسهم فى منح الاقتصاد الوطنى دفعة قوية. وهنا تجدر الاستفادة من تجارب الدول العربية التى خاضت عمليات الإصلاح الاقتصادى، مع استلهام الدروس المستفادة منها بل والتعلم من أخطائها.
وظنى أن قدرة حكومة المجلس الانتقالى على خلق التوازن بين أهداف الحفاظ على الاستقلال السياسى والاقتصادى للبلاد ومكتسبات العدل الاجتماعى من جهة وأهداف الانفتاح الواجب على النظام الاقتصادى العالمى من جهة أخرى ستحدد مدى نجاح الثورة الليبية اقتصاديا. ولعل من الضرورى للمجلس إعلان التزامه التام بالتعاقدات والاتفاقات البترولية المعقودة مع الدول المختلفة، وذلك دون التورط فى تبعية مقيتة لكارتلات البترول فى أوربا والولايات المتحدة المحتكرة للسوق العالمية، ودون غض الطرف عن تعاقدات انطوت على فساد كبير، مع السير فى إجراءات مقننة لمراجعتها.
إن قدرة المجلس الانتقالى على تشكيل علاقات طبيعية مع دول العالم ستحدد مدى قبوله الدولى، وفى هذا المضمار ثمة خطوات عاجلة على المجلس أن يخطوها، أولاها تعميق العلاقات مع الدول العربية خصوصا دول الشمال الإفريقى والسعى الحثيث للتكامل مع مصر وتونس كخطوة حقيقية نحو تشكيل بحيرة ديمقراطية عربية واعدة. وكذلك القيام بإجراءات ملموسة لرأب الصدع مع الدول الخليجية التى دعمت بقوة المجلس الانتقالى، وهى خطوة أراها تعين إلى حد كبير على اجتذاب الاستثمارات العربية لليبيا.
وعلى الدول العربية من جهتها تقديم صور الدعم كافة لليبيا، ومساندة حكومتها الجديدة، ومعاونتها على تجاوز تلك العزلة التى فرضها عليها القذافى وسلوكه الدولى الشائن. ولعل خير دعم للثورات العربية هو استثمار ما جرى فى ليبيا كدفقة أمل تعين على استكمال الربيع الديمقراطى العربى، وتلهم تلك الدول العربية التى لم تزل تحكمها نظم تسلطية عسكرية.