اليوم يبلغ الكاتب الكبير والمجدد يوسف الشارونى التسعين من عمره. والشارونى له عطاء وافر ومهم ومؤثر، ترك بصمات حقيقية على أجيال عديدة منذ أن كان ينشر قصصه الأولى فى عقد الأربعينيات، ثم أصدر مجموعته الأولى «العشاق الخمسة» فى ديسمبر 1954 عن سلسلة الكتاب الذهبى التى كان يصدرها نادى القصة، وفى العام ذاته أصدر يوسف إدريس مجموعته الأولى كذلك وهى «أرخص ليالى» فى السلسلة نفسها، وحظى الكاتبان الشابان بترحيب كبير من النقاد والحياة الثقافية، وإن كان الترحيب بمجموعة إدريس شملته الحاسة السياسية الواضحة، حيث إن يوسف إدريس كان ينتمى إلى أحزاب يسارية نشيطة، ويمارس العمل السياسى وسط الجماهير، وكان يقود تظاهرات فى أحياء شعبية مثل السيدة زينب وزينهم وكل المناطق التى تحيط بكلية الطب التى كان إدريس ينتمى إليها بحكم الدراسة، أما الاحتفاء بالشارونى فكان فنيًّا فقط، وربما لم يتحمس له الساسة والنقاد اليساريون وقت صدور المجموعة، وظل الاحتفاء بإدريس يطغى على أى احتفاء بكاتب آخر. وكتّاب كثيرون عانوا من الإهمال النقدى العفوى والمتعمد لكتاباتهم، والعكس كان صحيحا بالنسبة إلى إدريس الذى حظى بكل الرواج، وكان ذلك ممثلًا فى المتابعات النقدية والتمثيل فى مهرجانات ومؤتمرات خارج مصر والترجمات المبكرة جدا، وربما حدث ذلك لأن كتابة يوسف إدريس كانت مقتحمة ومتقاطعة مع الهواجس السياسية السائدة عند الناس، ولكن الشارونى كان مهتما بالهموم الوجودية للإنسان والتعبيرية وربما الفلسفية كذلك، ومن المدهش أن الشارونى نفسه بعد صدور المجموعة بأكثر من عقد من الزمان -أى فى عام 1966- قراءة أو شهادة أو اعترافات تخص كتاباته القصصية، وهو يبوح بأنه كان مشغولًا بالأزمة التى تنشب أظفارها فى روح الإنسان المعاصر، ويعترف بأن هذا المضمون فرض نوعا من الكتابة الفنية الخاصة والمتطورة، ويوضح الشارونى فى شهادته أن المستشرق جونسون ديفيد سأله عام 1947 بعد قراءته لقصته «الطريق»، هل قرأ «فرجينيا وولف»؟، ولكن الشارونى لم يكن قد قرأها، بل إن ثقافة الشارونى المعاصرة -آنذاك- هى التى جعلته يتشابه مع كتاب العالم الأول فى ذلك الوقت، وربما كان الشارونى يريد تنقية عالمه الفنى من أى شوائب سياسية معاصرة أو غير معاصرة. وهذا على عكس يوسف إدريس الذى خاطب الإنسان الاجتماعى والسياسى فى ذلك الوقت، وكتب قصته «الهجّانة»، التى أغضبت السلطة آنذاك، وكتب قصة «5 ساعات»، التى تتحدث عن الشهيد عبد القادر طه الذى اغتيل بواسطة الحرس الحديدى للقصر الملكى قبيل ثورة 1952، ومَن يتأمل قصص يوسف إدريس الأولى سيلاحظ أنها تشتبك بشكل مباشر مع الهموم والانشغالات الواضحة السياسية والاجتماعية، لكن الشارونى كان يسعى إلى فلترة قصصه وعوالمها من هذه الهموم والانشغالات، وربما كان مفرطا فى إسباغ هذا الجو على كتاباته، وأتذكر أننى أجريت معه حوارا منذ زمن بعيد وسألته: لماذا لم يشارك بشكل مباشر فى إبداء رأيه فى الأحداث السياسية التى عاصرها، وهو الذى عاش كل الأحداث السياسية الكبرى منذ عام 1952 حتى الآن، هذه الأحداث التى تتقاطع مع الناس بشكل عنيف فى حيواتهم الخاصة والعامة، وكانت إجابته القصيرة، تتلخص فى أنه يقول كل ما يريد فى إبداعه السردى وهو ليس معنيًّا وليس مشغولًا إلا بالفن، ولكن هناك واقعة فنية أو سياسية أو نقدية خاصة بإبداع الشارونى أوقفتنى كثيرا، ولم أستطع توصيفها، وهى تتعلق بقصة «الذهاب إلى المصحة» المنشورة فى مجموعته الأولى «العشاق الخمسة»، وعندما كنت أبحث فى أصل القصة، وجدت أنها منشورة فى مجلة «الأديب المصرى»، فى أبريل 1950، والتى كان يصدرها الكاتب الطليعى محمد مفيد الشوباشى، ولكن تحت عنوان آخر وهو «الطريق إلى المعتقل»، ولكن القصة تحولت بعد ثورة 23 يوليو إلى شىء آخر تماما، وليس مجرد تغيير العنوان هو الذى لحق بها. ولكن تغيرت الدلالات وتعدّلت العبارات، بحيث لا توجد أى إشارة إلى المعتقل وعوالمه التى كانت فى الشكل الأول من النص، والقصة باختصار شديد تحكى أن شابا ووالده يغادران منزلهما لزيارة شقيق لهما، ولم تتضح وجهة الزيارة فى البداية، وبعد أن غادر الشاب ووالده المنزل وودعا والدته، استقلا سيارة كئيبة ذات سائق عملاق يعانى من جرح غائر فى أذنه، ثم يصلان إلى محطة القطار، ويستقلان القطار الذى ازدحم بكم من العمال، وفى القطار فاحت رائحة نفّاذة فى الجو، فتساءل الناس عن تلك الرائحة، فردّ الشاب بأنها رائحة خل، وهنا تساءل الراكب المجاور للشاب ووالده: «وماذا يعمل الخلّ فى المعتقل؟»، فاندهش الشاب وسأل بدوره جاره: «كيف عرفت أننا ذاهبان إلى معتقل؟»، فردّ عليه الجار بأن ملابسه المختلفة عن كل الراكبين الذين يرتدون ملابس العمّال، هى التى جعلته يدرك أنهما ذاهبان إلى هناك، واتضح كذلك أن هذا الجار ذاهب أيضا لزيارة ابنه خليل، ويستمر الحوار بينهما حتى يصلا إلى المعتقل ذى الأسوار العملاقة الكئيبة، والجنود المسلحين، والتى تحولت فى القصة المنقحة إلى الأسوار البيضاء، والمرضى الناقهين، ويشعر قارئ القصة الأولى أنها عن شيطان، أما الثانية فكأنها مكتوبة عن ملاك، وكان السؤال الذى يشغل المتحاورين فى قصة المعتقل هو «لماذا صالح -شقيق الشاب- حكم عليه بهذا الحكم الجائر؟»، ولكنه فى قصة «المصحة»، تحول السؤال إلى: «كيف أصبح صالح من المصدورين، وكيف جاء له هذا المرض؟ وفى قصة المعتقل كان هناك حديث عن إضراب وخلافه، فتم حذفه بقسوة فى القصة المعدلة، والمدهش أن أحدًا من النقّاد لم يلتفت إلى ذلك، وربما لم يدركه أحد، وكذلك أستاذنا الكاتب الكبير الشارونى لم يشر إلى ذلك فى كل شهاداته الوفيرة من قريب أو بعيد، وهو شىء مربك حقا، ويحتاج إلى إيضاح شفّاف، والرجل قد بلغ التسعين، أطال الله فى عمره، وأدام عليه نعمة الإبداع.