إدراكان نقيضان للدين: أولهما «رائق» يجعل منه جسرا حاضنا لبنى الإنسان، إذ يسهم فى تأسيس المثل العليا للضمير البشرى كالعدالة والخير والتعاطف مع الآخرين، وهكذا يصير الإيمان حالة روحانية وجسرا وجوديا يربط عالم الشهادة بعالم الغيب، يدفع بالروح الإنسانية إلى تجاوز نفسها والتعالى على ضعفها، عبر ذلك الشعور بالتواصل مع المقدس بما يكفله من طمأنينة للنفس، وتساميا على الغرائز كالجشع والأنانية والحقد «المدنس»، وتناغما مع المبادئ الأساسية للوجود، على نحو يزيد من اليقين الإنسانى بالحضور الإلهى فى العالم، وفى العناية الإلهية بالمصير الإنسانى على الأرض. أما ثانيهما فإدراك «زائف» يجعل من الدين نصلا فى يد الشيطان، إذ يثير الأحقاد ويذكى الصراعات عندما يتسم بطابع عنصرى، أو يفشل المؤمنين به فى تفهم منطقه الخاص، وتجسيد مثله العليا. وهنا يصير الإيمان نوعا من النفاق يفسد اجتماعنا البشرى، إذ يصبح استثمارا سياسيا، طقسا دون اعتقاد، ومظهرا دون جوهر، حيث يتعرف «مدعى التدين» على نفسه كنقيض ضرورى للآخر، فى سياق نفيه والتنكر له إلى درجة استباحة وجوده، وربما الاستمتاع بالرقص على أشلائه، وهنا لا يبقى مسلما حنيفا، بل هو الجهادى والقاعدى والداعشى وكذلك الإخوانى فى طبعته الأخيرة. فى الدين «الجسر» يمثل الإيمان وسيلة مثلى لإنماء العوالم الداخلية للإنسان، وفى قلبها الحب كملكة نتعرف بها على أنفسنا ونتعاطف من خلالها مع الآخرين، ولذا كان الحب جوهر جميع الأديان حتى غير السماوى منها، وجماع الفلسفات عدا العنصرية فيها، فالقيمة الأخلاقية للحب أنه يدفعنا إلى التعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية وليس مجرد موضوعات أو موجودات أو أشياء. أما فى الدين النصل، فثمة تناقض حتمى مع باقى عوالم الإنسان الداخلية، التى هى منبع أمله وألمه، فرحه وحزنه، وغيرها من مشاعر تؤكد إنسانيته. ففى هذا النمط الزائف من التدين لا معنى للحب إلا إذا كان موجها نحو الله وحده، وعبر أشكال من التزمت تفضى إلى كراهية الآخرين، والقسوة عليهم، رغم أنه لا حب لله حقيقة إلا بحب الناس، فحبنا لله لا يضيف إلى الله شيئا، لأنه جل شأنه غنى عنا، يسمو على وعينا وإرادتنا، ولا معنى لحبنا له حقا إلا إذا مس هذا الحب جل مخلوقاته. فى سياق هذا الفهم وحده، حيث الدين نصل والتدين زائف، يمكن فهم كيف يكره المسلم إلى هذه الدرجة، وأن يعذب على هذا النحو، من ينتمون مثله إلى الوطن ذاته أو العقيدة نفسها؟ إنه فقر فى الحب، ينبع من عجز فى الإيمان، وهو قصور فى روحانية الإيمان يتغذى على ضمور فى ملكة الحب، فالحب والإيمان وجهان لعملة واحدة، إذ عندما يوجه الناس حبهم إلى ربهم يكون إيمانا حارا، وعندما يؤمن الناس بقيمة الإنسان الذى جعله الله خليفة له، يستحيل إيمانهم هياما وارفا، واحتراما جارفا. ومن ثم فمن لا يعرف معنى الحب لا يدرك جوهر الإيمان ولا معنى الأوطان، تلك هى الحقيقة التى لا يدركها كل أرباب الدين السياسى والتدين العنيف الذين جعلوا من حياة بنى دينهم وجلدتهم جهنم أرضية، وأحالوا حياتهم إلى كآبة لا نهائية، أخذت تزحف على كل أرض عربية!