أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال الذى حملته على ظهرى سنوات طويلة، توقفت خلالها عن الكتابة أكثر من مرة، مفضلا الصمت عن الكلام، لذلك أتفهم جدا دوافع الكاتب الذى يتوقف ليتأمل، ويتساءل عن جدوى ما يقول. هل الكتابة مجرد «شغلانة» نرتزق منها، و«نسلك بها» أمورنا مع السلطة وحاشيتها؟ طبعًا الإجابة تتفاوت من كاتب إلى كاتب، وفى الشهر الأخير توقف اثنان من الكتاب المحترمين أسلوبًا وموضوعًا: محمد المخزنجى وعز الدين شكرى فشير، وقدما فى حيثيات التوقف نصًّا مكتوبًا يصلح وثيقة عن دور الكتابة وجدواها، وكذلك عن دور الكاتب نفسه وجدواه فى وطن لا يقرأ، وإن قرأ لا يفهم، وإن فهم لا يتحرك ولا يفعل. لا أخفى عليكم أننى شعرت بمزيج متناقض من الخسارة للقراء والغبطة للكاتبين المحترمين، فالكتابة فعلا فى أردأ حالاتها من حيث الإبداع والتلقى معًا، وكذلك من حيث قدرتها على التأثير فى المجتمع، لكننى هذه المرة لا أستطيع التوقف، فكما قال المخزنجى فإن لديه بيتا يعود إليه (الأدب)، وكذلك قال فشير، الذى تفهم دوافع استمرار الكاتب المحترف، واعتبر نفسه مجرد زائر أو ضيف اختيارى فى الكتابة الصحفية. وكنت قد كتبت منذ شهور مرثية للكاتب الهاوى الحر تحت عنوان «أنْ تكتب لتعيش»، فلدينا الآن كتاب يقرؤون الصحف ثم يعلقون عليها، أو ينسجون على منوال الموضوعات السائدة، والعناوين المثيرة، لا يستطيعون تقديم الجديد، لأن الرواج حاليا لمن «يلت ويعجن» فى الأحاديث الدائرة، ويهبط بموضوع مقاله (ولغته أيضا) إلى مستوى الثرثرة الشائعة وتعليقات المقاهى، بحيث انعدمت المسافة بين الكاتب والقارئ، وأصبح من حق أى قارئ أن يطمع فى مكانة الكاتب ويتحول بين يوم وليلة إلى كاتب شهير، إذا توفرت له مساحة أو واسطة، أو ينشئ صفحة على «الفيس» باسم «الكاتب الكبير فلان». هكذا دخلت الكلمة لعبة التسويق وصارت مطية لكثير من الأهداف ليس بينها بالضرورة «أهمية الكلمة كفعل اجتماعى»، فنحن نكتب بحثًا عن «برستيج» أو «سبوبة»، أو من أجل «التبرير»، و«التمرير»، و«حسابات الترضية»، و«خريطة المصالح»، و«توازنات القوى»، ورسائل الترهيب والترغيب والمنافسة والاستعراض.... إلخ، أما الوطن فلم يعد سوى كلمة يتشدق بها كبار التجار فى سوق الكلام، حتى جعلوا الوطن نفسه مجرد «وجهة نظر»، و«محل خلاف»، ومشتبه به، و«فاشل بالوراثة»، ولا مستقبل له، لا فرق فى ذلك بين من يسوق لنا ألفاظ الثورة، والديمقراطية، والليبرالية، والمجتمع المدنى، وبين من يرهبنا بالحديث عن الله والآخرة، وهو يسحب المجتمع بغباء، أو بعمالة مشبوهة نحو عصور الظلام. لا أريد أن أعيد وأزيد عن قيمة الكلمة، فقط أذكر أن الكلمة «فعل» كما كتب يوسف إدريس وصلاح جاهين وصلاح عبد الصبور ومئات الكتاب، وبالتالى فإن مجرد الحديث عن الشجرة المعوجة لا يكفى لإصلاحها، لا بد من المصالحة بين القول والفعل، ونبذ الكلام الفارغ، والمواقف اللقيطة المنزوعة من أى سياق. أعرف أنه من الصعب أن نحاول تغيير المجتمع من خلال تعديل «لغة الخطاب» وفقط، خصوصًا أن المحاولات الجزئية لتحديث «الخطاب الدينى»، أو ترشيد «الخطاب الإعلامى»، أو دراسة مضمون «الخطاب السياسى»، كلها ظلت أشبه ب«مزايدات بحثية» يلقى بها أصحابها فى وجه آخرين، والآخرون يتنصلون منها، بل ويردون «أهو أنت»، وأعرف أنه وسط هذا الضجيج، لم يعد من المفيد أن نستدعى دروسا من التاريخ عن «الجدل البيزنطى»، أو ندعو الغارقين فى «أورجازم الكلام» إلى التمسك بفضيلة الصمت، أو نطالب بمحاكمة أبواق التصريحات الحكومية التى لا تكل ولا تمل، فقط نريد أن نعيد للكلمة اعتبارها، ونقول لكل من ينطق بها «خليك قدها».. وبعدها سنعرف ماذا يمكن أن تفعل الكلمة.