كان البرادعى هو مفجر الثورة الأولى عندما جاء إلى مصر عام 2009، ولم يمض سوى أقل من عامين لنرى الثورة وقد صارت فى الشارع بعد أن أزاحت عن مصر الكابوس الجاثم على صدرها 30 عاما. تصور البعض من حَمَلة المباخر فى عهد مبارك وعلى رأسهم عمرو موسى أن مصر تبحث عن قائد وأنه من حقه أن يشغل هذا المقعد الذى آل إليه بعد غياب قائده وولى نعمته وبالطبع ليس عمرو موسى فقط ولكن عديدين لم يكن لهم أى دور سوى الدفاع عن بقاء مبارك وعن التوريث، تصور هؤلاء أن عليهم أن يقتنصوا الفرصة قبل أن يلتقطها غيرهم، إلا أن حالة عمرو موسى تظل هى الأكثر إلحاحا فى المشهد الرئاسى. إنهم يكذبون على أنفسهم وعلى الشعب بادعاء بطولات زائفة. كل من كان داخل دائرة الحكم كان مدافعا عن مبارك والتوريث. الحقيقة من الصعب أن أستثنى أحدا حتى من أُبعِد فى السنوات الأخيرة عن دائرة مبارك. كان كل هؤلاء يدركون أن هناك مبدأ عامًّا لا يمكن سوى الالتزام به وهو بقاء مبارك والدفاع عن التوريث. الرجل الذى وقف بقوة وكان صوته مسموعا فى العالم كله هو محمد البرادعى، فى لحظات تحول الرجل بملامحه إلى أيقونة فى الشارع المصرى تهدد بقوة الطاغية، بينما أدعياء البطولة الآن كانوا متشبثين بمقاعدهم بجوار الحاكم، ولهذا فإنه وحده الآن بين مرشحى الرئاسة الذى يواجه فلول مبارك الذين نجحوا مع الأسف فى إلصاق اتهامات رددها رجل الشارع فى زمن مبارك وكان ينبغى أن تسقط مع سقوط النظام إلا أننا نعرف جميعا أن مبارك سقط والنظام لا يزال باقيا. البرادعى هو العدو الأول لنظام مبارك وقد احتفظ أيضا بلقب العدو الأول للنظام العسكرى بينما هناك من «سلَّم النِّمَر» للمجلس العسكرى حتى يضمن له وجودا فى السلطة القادمة. العسكريون مهما قالوا من وعود فإنهم لن يتركوا الأمور تفلت تماما من بين أيديهم، فإذا لم يكن المشير طنطاوى هو الرئيس القادم فإن القادم ينبغى أن يكون ولاؤه للمجلس، يحميه، فيضمنون حمايته لتصبح -شكليا- مصر تحررت من الحكم العسكرى الممتد 60 عاما وهكذا يقترب الكرسى من عمرو موسى، فهو رئيس تنطبق عليه مواصفات «الكتالوج»! المؤسسة العسكرية لديها قوة وتمسك بالكثير من الخيوط، هناك خيط رفيع أمسك به البرادعى هو الذى يفصل بين انتقاد المجلس العسكرى حاكم البلاد الفعلى وبين قواتنا المسلحة التى لها مساحة لا تُمَس من الحب والاحترام فى ضمير كل مصرى، المجلس لا يطيق هذا الفصل.. البرادعى انتقد أيضا بعض السلوك فى القضاء الذى يحتاج إلى تطهير، وسلطة القضاء هى ظل الله على الأرض والناس تنتظر دائما أن يأتى صوت القاضى محمَّلا بالعدالة ولكن البرادعى رجل القانون شعر بأن هذه العدالة تتعرض لقدر لا ينكر من الاختراق وأن السلطة السياسية فى عهد مبارك سيطرت على جزء منها ولا يزال لدى السلطة وسائلها. من يتطلع إلى منصب الرئيس مطلوب منه أن يصبح قادرا على أن يكبت آراءه أو يلوّنها ولكن الرجل لا يعرف سوى الأبيض والأسود. الثورة مدينة للبرادعى فهو لم يخش التهديد بينما مثلا د.زويل جاء إلى مصر ولديه رغبة فى التغيير ولكنهم همسوا فى أذنه بأن عليه أن يتوقف وكانت الدولة تفتح له المسرح الكبير فى دار الأوبرا وتسمح بأغنيات يتردد فيها اسمه على شرط أن يكتفى بالحديث عن «الفيمتو ثانية» وعن «الميكروسكوب ذو البعد الرابع» ولكن السياسة هى «التابو» الذى ليس من حق أى أحد التدخل فى تفاصيله.. البرادعى لم يقبل هذه المعادلة ودخل عش الدبابير فناله الكثير من القرص. مبارك والمجلس العسكرى وعدد من النخبة لعبوا دورهم فى تلويث صورة البرادعى، ولا أتصوره بالمناسبة فى يوم وليلة سوف يمحو كل ما علق بثوبه الأبيض ولكنه الآن تحرر من التطلع إلى منصب الرئيس وألقى كلمته ولكنه لم يهرب من الميدان. البرادعى الآن هو قائد المعركة الثانية من أجل دعم مجتمع مدنى قادر على حماية الثورة. أتصور أن هذا هو رهان البرادعى القادم.. كان هو مفجر الثورة الأول فصار هو حاميها الأول!