كتبت: نجلاء أبو النجا الفخرانى وعبد الرحيم كمال يهزمان «شكسبير» فى عقر داره شهوة حب الذات تحولت من الملك لير فى إنجلترا للباسل فى الصعيد فى حضرة يحيى الفخرانى يجلس الجميع صامتين.. مندهشين.. أمام «الإمام الأكبر» للتمثيل.. وشيخ شيوخ الإحساس.. وصاحب تجليات السهل الممتنع.. يحيى الفخرانى الذى لا يتبرَّع بكلمة أو يبادر بحديث لكنه يجتاحك بإحساس صادق صارخ.. بكلمات قليلة تخرج من فمه.. أو نظرات بسيطة من عينيه قد تبكى وتصل إلى درجة الانهيار.. أو تفرح وتصل إلى قمة النشوى الحسيّة والإنسانية. وفى مسلسل «دهشة» لم يكف الناس عن الاندهاش مع كل مشهد أو جملة من رائعة الكاتب المتميّز عبد الرحيم كمال.. جسّدها بخبرة الإحساس يحيى الفخرانى أو «الباسل» كما أطلق عليه كمال فى «دهشة».. وأنت تشاهد «دهشة» تجد نفسك محاصرًا بسؤال شديد الإلحاح.. كيف استطاع الفخرانى هزيمة الملك لير صاحب الملحمة الأصلى.. كيف وصل إلى أن لا يتخيّل الجميع هذا الملك إلا فى صورة يسيطر على ملامحها شخص وحيد «الباسل» الشهير بيحيى الفخرانى.. وكيف استطاع عبد الرحيم كمال أيضًا هزيمة هذا الشكسبير.. كيف تفوّق على حبكته وشخوصه وحوَّل الرواية العالمية الشهيرة إلى ملحمة مصرية صعيدية إنسانية صاخبة بالخطوط الدرامية العميقة والعنيفة.. ومحملة بالجمل الحوارية القصيرة المؤثَّرة التى تصل بك إلى حد اتخاذها حِكمًا وأقوالًا مأثورة. كوَّن يحيى الفخرانى وعبد الرحيم كمال ثنائيًّا فنيًّا شديد الرُّقى والعبقرية والإبداع على مدى عدة سنوات فى أعمال عديدة مثل «شيخ العرب همام» و«الخواجة عبد القادر».. اتجه الثنائى نحو عوالم جديدة على الدراما المصرية تميل إلى الروحانيات والمشاعر الإنسانية وتنحاز إلى الأحاسيس المبدعة التى تخرجك من قتامة الواقع وتطرح أمامك آفاقًا من النور والأحلام الرومانسية. فى «دهشة» طرح عبد الرحيم قصة «الملك لير» التى كتبها وليم شكسبير عام 1603 وتحوَّلت إلى مسرحية عام 1606.. ومن قسوة ورقّة الرواية فى نفس الوقت وصفها النقاد بأنها رواية تُقرأ ولا يمكن تجسيدها لصعوبة وتداخل أحاسيسها.. تحوَّل الملك لير على يد كمال إلى شخصية الباسل الصعيدى الثرى القوى.. وبناته الثلاث، جنريل وريجان وكردليا، إلى نوال ورابحة ونعمة.. ثم تطرَّق كمال إلى خلق تاريخ دقيق لشخصيات المسلسل وتفاصيل عميقة للباسل وعائلته توضح علاقة متوترة بإخوته تخلق حالة من الطمع فى ثروته، مما يبرّر تسرّعه فى توزيع تلك الثروة على بناته.. وطرح أيضًا تبريرات لعداء زوجَى رابحة ونوال للباسل، ووصول ذلك العداء إلى حالة من الانتقام فور تقسيمه الثروة على ابنتيه. «الملك لير» ملك بريطانيا الأسطورى أظهره شكسبير على أنه إنسان يعانى من شهوة حب الذات وعشق المدح والإطراء، طرح سؤالًا على بناته الثلاث، يسألهن عن مدى حب كل منهن له، وبناء على ضخامة الإجابة سيتم توزيع الثروة.. فتنافقه الكبيرتان بعبارات حب جوفاء، لكنها تحمل مبالغة وإطراء.. بينما الصغرى التى تعشقه وتراه أعظم الآباء فى الوجود ترفض نفاقه وتكتفى بأنها تحبّه لأنه أبوها، ولأن لديه شهوة أن يكون الأول والأخير فى عيون الجميع يعاقب ابنته بحرمانها من الثروة ويوزّعها على الكبيرتين المنافقتين، ويعجب ملك فرنسا بصراحة الابنة الصغرى وزهدها فى الأموال فيقرر الزواج منها.. بينما قدم كمال «الباسل» على أنه شخص نبيل وعصامى يعانى من تفاقم الحب والعاطفة الإنسانية العميقة بينه وبين ابنته الصغرى نعمة التى تصر على عناده والزواج من ابن عمّها المغضوب عليه، ولإصرارها على موقفها وتصاعد ونفاق شقيقتيها له يحرم صغيرته من الثروة.. ثم يعيش بعدها يعانى من تصديقه مشاعر مزيّفة سرعان ما انكشفت وحلّ محلها العقوق والكراهية التى تجلب له المهانة. وتألَّق الثنائى فى تصوير مشاهد العقوق التى وصلت إلى طرد الابنة لأبيها الباسل ليخرج الملك المتوّج باكى العينين محشورًا حافى القدمين يدوس رمال الصحراء وهو لا يستوعب ما يحدث له.. فى مشهد أبكى الجميع حزنًا على الباسل.. وعشقًا للإمام الأكبر للتمثيل يحيى الفخرانى. .. نجح الفخرانى فى هزيمة أسطورة الملك لير.. تفوَّق على سقف التوقعات وما يمكن أن يحلم به عشاق الأداء والإبداع.. وهزم الشاب الصعيدى عبد الرحيم كمال شكسبير فى عقر داره وبواسطة أهم أعماله على الإطلاق فتخطَّت خطوط «دهشة» الدرامية الحبكة والخطوط الشكسبيرية.. وآلت الأمور والمقارنة فى صالح الصعيدى و«دهشته» التى لم تترك ثغرة إلا وأجابت عنها قبل السؤال.. وأكمل لوحة الفخرانى وكمال الملحمية حِرفية وبساطة المخرج شادى الفخرانى.. وروعة نغمات الموسيقار عمر خيرت.