لا تقضى كأس العالم على أى مشكلة من مشكلات العالم، ولا حتى تؤجلها، فالفقراء لن يجدوا طعامهم سواء فى مصر أو فى البرازيل، والحروب الأهلية ستبقى على الدرجة نفسها من الدناءة، والألم سيبقى مؤلما دون دواء، ومع ذلك يمر شهر كأس العالم على البعض منا مثل حلم جميل، يبدو منظر البشرية رائعا، سواء بالنسبة إلى الذين شاركوا أو وجدوا أنفسهم خارج الحلبة، ليست فقط الألوان الزاهية والمهارات العالية على أرض الملعب، ولا الوجوه الحلوة فى المدرجات، لكنها لحظة التسامى التى تحول الخلافات والضغائن وفوارق الثروات بين الجميع إلى مجرد لعبة مليئة بالإثارة والتسلية، وهى لحظة نادرة ترضى فيها الحكومات عن فقراء شعوبها، فتضع لهم بعض التليفزيونات فى الشوارع، وتعدهم بعدم قطع الكهرباء عنهم حتى تنتهى المباراة، كما يحدث فى مصر، وهو تعاطف لا يدوم طويلا. يكمن كثير من العنف والتعصب فى جذور كرة القدم، فبداية اللعبة كانت وحشية، كان الإنجليز يحتفلون بانتصارهم على الغزاة من «الفايكنج» من النرويجيين، وقتلوا منهم عددا كبيرا، واستخدموا رؤوس الموتى ليقيموا أول مباراة فى التاريخ، وقد لازم هذا الطقس العنيف العديد من الحروب، فركل الجماجم كان الوسيلة الوحيدة لتفريغ شحنات الغضب التى يخلفها القتال، وما زالت الكرة رغم ألوانها المتعددة تحمل ملامح الجمجمة الأولى، لم ترتق البشرية إلا قريبا، ولم توقف حروبها الكبرى إلا منذ 60 عاما، ولم تهدأ الحروب الصغيرة حتى الآن، ولم يشهد تاريخ الإنسان الطويل سنوات خالية من كل أنواع الحروب إلا لمدة 150 عاما فقط، وهى الفترة التى انتصرت فيها روما على كل ممالك العالم، وفرضت حكمها من بلاد الإنجليز إلى حدود الصين، وأرغمت كل الشعوب المغلوبة على التعايش معا دون حروب، إنها فترة «السلام الرومانى»، التى انتهت مع سقوط روما نفسها حتى تحت أقدام البرابرة. لكن كرة القدم ليست بديلا للحرب، لكنها فقط تنقل جزءا من العدوانية الذكورية من ميدان القتال إلى ساحة أخرى أقل دموية، رغم أنها تستخدم نفس مفردات الحرب، دفاع وهجوم واحتلال أرض الخصم وإصابة مرماه، معركة كاملة بلا قتلى ولا ضحايا، معجزتها الحقيقية حدثت فى أوروبا، القارة العجوز التى لم تكف عن التصارع، وقادت العالم إلى حربين عالميتين، استطاعت دول القارة أن تنقل تناقضاتها وعدوانيتها إلى ملاعب الكرة، وكفت عن إشعال النيران فى ما بينها، وإن ظلت تغذيها وتحرض عليها فى أماكن أخرى من العالم، ورغم العنف وسقوط بعض القتلى فى ملاعبها، لم توقف المباريات أو تدفع بالمتفرجين إلى خارج الملاعب، بالعكس انتقلت من مرحلة الأسوار العالية إلى الملاعب المفتوحة، وجمعت القوميات المتنافرة فى اتحاد واضح يضمها، وكانت كرة القدم هى الطريق لذلك. لكن هناك جانب بدائى لم يشذب بعد من الشخصية الأوروبية، وعندما ذهبت زيارة لإسبانيا، وكنت حريصا على مشاهدة مصارعة الثيران، وهى لا توجد إلا فى إسبانيا وجنوب فرنسا والمكسيك، جمهورها مختلف عن الكرة، هتافهم أعلى حدة وأكثر تشوقا لرؤية الدماء، كانت الحلبة مزدحمة، ولفت نظرى أن النساء كن موجودات بأعداد كبيرة، نساء جميلات، لكن جامدات القلب، الجمهور المتحمس كان يهتف «أوليه» إذا أعجبته الطعنة، ويرفع المناديل البيضاء ويصيح مستاء إذا كان المصارع متواضعا، وفى أثناء الصراع وجدت نفسى متعاطفا مع الثور المسكين الذى لا يفهم ماذا يدور من حوله، بينما يقف مساعدو المصارع وهم يرشقون جسده بالسهام الملونة حتى يزيدوا من هياجه، وفى الحقيقة هو لا يهيج، لكنه ينزف وتخور قواه شيئا فشيئا ليصبح فريسة سهلة «للميتادور» المصارع الوسيم الذى تتهافت عليه النساء عندما يشمون رائحة الدم، فى العرض الأول الذى رأيته فشل المصارع فى قتل الثور، حتى بعد أن غرس السيف فى رقبته، والتف المساعدون بسكاكينهم حول الثور المسكين يذبحونه، بينما نجا المصارع بنفسه وسط استنكار الجماهير وتلويحهم له بالمناديل البيضاء، خرجت مقروفا ومشمئزا من ذلك الذبح غير المبرر، ولم أخف ذلك عن رئيس الحلبة الذى هتف بى غاضبا: «تقول إنها رياضة وحشية، هى بالفعل كذلك، وكنا نمارسها فى الشمال، فى المدن التى لم يصل إليها المسلمون، حتى تنزع عنا الرحمة ونحن نحارب لإخراجهم من الأندلس، ونحن نمارسها الآن حتى نفرغ فيها كل الوحشية الموجودة فى داخلنا، نحن لا نقتل بعضنا البعض كما هو الحال فى بلادكم، نحن فقط نقتل الثيران»، كان عليه أن يذكرنى أننا بالفعل ما زلنا نقتل بعضنا البعض، دون هدف ودون مبرر، ودون متعة أيضا، فى مصر نلنا كفايتنا من القتلى على مدى السنوات الثلاث السابقة، لكن آلة القتل العربية ما زالت متواصلة، فى ليبيا لا يوجد فروق بين الأصدقاء والأعداء، وفى سوريا من المستحيل معرفة من يدمر بلده أكثر من الآخر، وفى العراق يظهر جيش من القرون الوسطى يكتسح أمامه الوطن، الذى كان قبلة للعرب ذات يوم، وفى كل مكان ترتفع الرايات السوداء كأنها علامات الطاعون، ربما كنا فى حاجة إلى أن نأخذ كرة القدم بجدية أكثر، لعلنا نستهلك قليلا من كم الكراهية التى نكنها جميعا لبعضنا البعض.