عندما اتفقت القوى الداعمة لخارطة المستقبل بعد 30 يونيو على تسليم السلطة إلى سلطة انتقالية جديدة، توافقوا أن يكون على رأسها رئيس المحكمة الدستورية العليا، ولم يكن ذلك غريبًا، بقدر ما كان منسجمًا مع عرف التحولات، التى تجاوزها مبارك وهو يسلم البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى خطاب تنحيه. فى فترات التحول يكون رئيس المحكمة العليا خيارًا مطروحًا، فى حالات خلو موقع رئيس الجمهورية، تضع الدساتير رئيس المحكمة الدستورية خيارا تاليا بعد رئيس البرلمان لشغل الموقع الرفيع مؤقتًا، لحين إجراء الانتخابات الرئاسية. وعندما تلا السيسى بيان الثالث من يوليو، ربما لم يهتم أحد باسم رئيس المحكمة الدستورية، بقدر الاهتمام بأن صاحب المكانة القضائية الذى لم يكن قد أدى يمين رئاسة المحكمة بعد، سيكون رئيسا مؤقتا للجمهورية فى فترة تحول جديدة، يؤسس خلالها سلطة انتقالية سندها واقع جديد، وهذه السلطة تتولى ترتيب إجراءات وخطوات خارطة المستقبل، وتسير أمور البلاد برضا البعض وغضب البعض الآخر، ويكون لكل قرار تتخذه هذه السلطة تداعياته. أصبح المستشار عدلى منصور رئيسا للمحكمة الدستورية أولا ثم تسلم مهام رئيس الجمهورية بصفته القضائية، وطوال العام الذى قضاه فى قصر الرئاسة، ظل يجمع بين صفة رئاسة المحكمة، وإن كان لا يمارس أى صلاحيات بهذه الصفة، وبين مهمة رئيس الجمهورية التى تم انتدابه إليها. وعندما يحلف الرئيس عبد الفتاح السيسى اليمين الدستورية غدًا، ينتهى انتداب المستشار عدلى منصور، ويصبح من حقه قانونيًّا العودة إلى مكانه الأصلى كرئيس للمحكمة الدستورية، التى ما زال على قوتها، لم يتقدم باستقالته حين غادرها لمهمة مؤقتة، ولم يبلغ بعد سن المعاش. هذا ما يقوله القانون، لكن إضافة للقانون هناك ما يمكن أن نسميه «المواءمة»، هل سيكون مناسبًا أن يشتغل الرجل بالسياسة من موقعه الرئاسى ثم يعود إلى صفته القضائية؟ لا يوجد قانون يمنع، لكن فى القضاء مبدأ أصيل هو «استشعار الحرج»، ويعنى أن لا يتصدى قاض لحكم أو قضية له فيها مصلحة، أو خصومة مع أحد طرفى الدعوى، أو ارتباط، أو أى شبهة يمكن أن تؤثر معنويًّا على حكمه. وإذا عاد المستشار عدلى منصور إلى رئاسة المحكمة الدستورية المختصة بالحكم فى دستورية القوانين، فسيكون عدلى منصور القاضى فى مواجهة مع عدلى منصور الرئيس، لأن الرجل بحكم صلاحياته الرئاسية مارس السلطة التشريعية وأصدر حزمة من القوانين كثير منها يثير جدلا كبيرا، إلى جانب شبهات عدم الدستورية. مثلا، قانون تحصين الطعن على العقود الحكومية ومنع غير طرفى العقد من مباشرة الطعن، الذى أصدره الرئيس عدلى منصور، أُحيل إلى المحكمة الدستورية العليا التى يرأسها أيضًا عدلى منصور، فهل يستقيم الأمر؟ وهل سيستقيم عند عرض قانون التظاهر وقانون مجلس النواب وغيرهما من قوانين أصدرها وتتعارض بعض موادها مع نصوص دستورية، أو هكذا يفترض معارضوها، ولا يمكن الفصل فى ذلك إلا أمام قضاة المحكمة الدستورية. لا يكفى أن يستشعر القاضى الحرج، فيتنحى كفرد عن نظر أى دعوى تطعن على قانون أصدره، لأنه فى النهاية واحد من سبعة قضاة فى الدعوى الواحدة، لأن وجوده كرئيس للمحكمة الدستورية يخلق له نفوذًا معنويًّا، على الأقل يحرج زملاءه حال محاكمتهم قانونًا أصدره رئيسهم، ويحرج المجتمع كله حال الحكم بعدم دستورية قانون أصدره رئيس المحكمة الدستورية حامى الدستور. الرجل نفسه تحدث بهذا المنطق فى بدايات عام حكمه، قاطعًا بأن عودته إلى المحكمة صارت محاطة بالحرج، ولا أدرى هل غير قناعته تلك أم أن ما ينشر عن ذلك مجرد اجتهادات ربما من باب محاولات تكريمه، لكن القاضى الذى صار رئيسًا للجمهورية دون أن يسعى ويطلب ويختار ويتكالب، وقضى عامًا صعبًا فى السلطة، يحتاج إلى تكريم أفضل من هذا الحرج. لا تتركوا عدلى منصور يحاكم عدلى منصور.