· بدلا من أن يرد المجلس العسكري علي إسرائيل اقتداء بتركيا.. راح المجلس العسكري يرد علي تركيا وليس علي إسرائيل.. راح يرد علي تركيا نيابة عن إسرائيل.. وينكل بالمشاعر الوطنية للشعب المصري.. ويقدم عونا متبجحا «للأصدقاء» في تل أبيب.. ينقذهم من مأزقهم مع تركيا.. ويذهب عنهم أحزانهم.. ويفتح لهم باب مصر.. ويحصن السفير الإسرائيلي.. ويبني جدارا عازلا حول السفارة تصوير: محمد أسد كان مبارك من الغباء بحيث لم يلحظ تحذيرنا - لألف مرة- من ثورة مقبلة مقبلة، وأخشي أن المجلس العسكري - بالقصد أو بدونه- يكرر غباوة مبارك ذاتها. ويلحظ القارئ الكريم أنني أتحدث عن المجلس العسكري، ولا أذكر الحكومة بالاسم ولا بالرسم، والسبب بسيط، وهو أنه لاتوجد حكومة في مصر الآن، وما من دليل واحد علي وجودها، السيد عصام شرف يبدو كضيف شرف، وليس كرئيس للوزراء، وهو رجل طيب تلعب به المقادير، ورغم وجود وزراء بكفاءات ممتازة، ومن نوع حازم الببلاوي وعمرو حلمي وجودة عبدالخالق، يضيع الجهد في الزحام، وتبدو الحكومة كقطعة جيلاتين لزجة تتعثر فيها الأقدام، ولاتبدو لها أقدام، ولا جسد منظور، وتفتقر لأدني حس سياسي أو شعبي، أوشعور بالمسئولية العامة، ويبدو وزراؤها كعمال باليومية، أوكموظفين «زهورات»، لم تصدر لهم عقود التثبيت بعد، ولا الصلاحيات اللازمة، ولا السياسة المرعية،ويقضون أوقات عملهم في فراغ عبثي، ويتعلمون مبادئ الحلاقة في رءوس اليتامي المصريين، وكأنهم في بعثة تدريب، أو في بروفة وزارية، لا في مهمة إنقاذ، ولافي زمن ثوري استثنائي. والمعني- ببساطة- أنه لاحاجة لتذكر حكاية الحكومة، لأن الضرب في الميت حرام، والضرب في المضروب قلة مروءة، وأتحدي أن يتذكر أحد - مثلا- اسم وزير خارجية مصر الحالي، فوزير الخارجية في أي بلد نار علي علم، بينما وزير خارجيتنا تحت الدكة، ووزير الخارجية الذي نعرفه هو المقاول الذي بني الجدار الاسمنتي العازل أمام السفارة الإسرائيلية علي نيل الجيزة، والمقاول قالها ببساطة، فقد تلقي تكليف البناء من المجلس العسكري،وليس من وزير الخارجية، ولا من وزير الداخلية،ولا من عصام شرف المسمي رئيسا للوزراء، فهؤلاء جميعا في حضرة الغياب الذاهل، والحاضر الوحيد هو المجلس العسكري، فهو الذي يصنع السياسة، أو تصنع له، وهو الذي ينفذ، وهو الذي يوفر الرسوم الهندسية للمقاولين، وهو صاحب المقاولة المريبة في عناوينها وتوقيتاتها، فقد بدأ المجلس العسكري في بناء الجدار العازل، وفي تحصين السفارة الإسرائيلية، وفي إعادة رفع العلم الإسرائيلي، وأبدي نشاطا وحماسا ملتهبا في خدمة إسرائيل، وفي تبييض «وشها» العكر في الوقت المثير للريب، فقد أقدمت تركيا علي طرد السفير الإسرائيلي، وجمدت كل الاتفاقات العسكرية مع تل ابيب، وأعلنت حربا بحرية ضدها، وعجزت إسرائيل عن الرد، وتصور كثيرون أن المجلس العسكري قد يفعلها، ولو من باب الغيرة، وأنه قد يسعي لتقليد الأتراك، فقد فعلتها حكومة أردوغان تحديا لإسرائيل، وتعبيرا عن كرامة وطنية طلبت اعتذارا رسميا إسرائيليا وتعويضات عن قتل أتراك،وحين امتنعت إسرائيل عن الاعتذار، وتواطأ معها تقرير مشبوه للأمم المتحدة، جاء القصف السياسي التركي، ودون أن تخشي أنقرة، لا من الحليف الأمريكي، ولا من الخصم الإسرائيلي، وقدمت أنقرة درسا سياسيا بليغا، وتصور الطيبون في مصر أن المجلس العسكري قد يتشجع، وقد يرد علي صلف إسرائيل التي قتلت ضباطنا وجنودنا بالدم البارد والرصاص الحارق، وارتكبت الجريمة داخل أراضينا، وداست أبسط أبجديات السيادة المصرية، ورفضت الاعتذار الرسمي، وبدلا من أن يرد المجلس العسكري علي إسرائيل اقتداء بتركيا، راح المجلس العسكري يرد علي تركيا وليس علي إسرائيل، راح يرد علي تركيا نيابة عن إسرائيل، وينكل بالمشاعر الوطنية للشعب المصري ويقدم عونا متبجحا «للأصدقاء» في تل أبيب، ينقذهم من مأزقهم مع تركيا، ويذهب عنهم أحزانهم، ويفتح لهم باب مصر، ويحصن السفير الإسرائيلي، ويبني جدارا عازلا حول السفارة الإسرائيلية، يحميها من مظاهرات الشباب الوطني المصري، ويؤكد الولاء المطلق لأصدقاء مبارك، ورعاته وحماته في تل أبيب وواشنطن. نعم، المتهم هو المجلس العسكري، وليس أي أحد آخر، وقراره ببناء الجدار الحامي للإسرائيليين غريب ومريب، ويبدو صادرا من تل أبيب،وليس من القاهرة، وعلي طريقة «زيتنا في دقيقهم» الموروثة عن مبارك، وكأنه يطمئن الإسرائيليين ويحفظ لهم المقام السامي في مصر، ويهدئ مخاوفهم من الثورة المصرية، ومن غضب الشعب المصري، ومن المطالبات الوطنية المتنامية بالخروج من أسر كامب ديفيد، ومن قيود المذلة، ومن عهدالخضوع للأمريكيين والإسرائيليين، وكأنما أراد المجلس العسكري أن يؤكد حسن نيته، وأن يرسخ أقدام إسرائيل في مصر، وأن يجدد التعهدات بضمان سلامة وأمن إسرائيل والإسرائيليين، ولو علي حساب دم الضباط والجنود الشهداء، وعلي حساب ثورة الشعب المصري، والتي يبذل المجلس العسكري جهدا دءوبا لاحتوائها، وتفريغها من قوة الدفع فيها، وربما التسريع بمراسم دفنها إن أمكن، وكأن شيئا لم يحدث في مصر، وكأن مبارك لايزال في مكانه، يكتب ما يملي عليه، ويورثه لخلفائه وجنرالاته، ويحفظ عندهم كلمة السر، ويكفل دوام الطاعة للسفارة الأمريكية، ولرغبات وأشواق إسرائيل ومبعوثيها العلنيين والسريين. وبناء الجدار الحامي للسفارة الإسرائيلية ليس تصرفا بالسياسة الخارجية، إنه في صلب سياسات الداخل المصري، وفي صلب ما تريده أمريكا وإسرائيل، لا مايريده الشعب المصري، وقد أراد الشعب المصري أن يثور، وفعلها في دراما هائلة، أراد أن يخلع مبارك، وفعلها ، وأراد أن يحاكم المخلوع، وفعلها، وأراد أن يخلع النظام بعد خلع الرأس، وهنا تحايل المجلس العسكري الحاكم، قدم التنازلات للشعب المصري في الفروع، وأراد أن يستبقي الأصل، أن يجدد في الوجوه، ولكن مع بقاء السياسة ذاتها، أن يتلاعب بمهام المرحلة الانتقالية، وأن يثير الفرقة بين القوي الوطنية، وأن يستثير المطامع الذاتية، وأن يترك الشارع نهبا لعصابات البلطجة، وأن ينشر الفزع العام، وعلي سبيل اختصار الطريق للهدف، وتكفير الناس بالثورة التي أقلقت أمنهم، واستدعاء كتائب الرئيس المخلوع، ولو من الباب الخلفي، والإصرار علي إجراء انتخابات نصفها بالنظام الفردي، إفساحا في المجال لمليارديرات المال الحرام، ولقادة فرق البلطجة، وللعصبيات العائلية والجهوية، ووضع قانون الغدر في ثلاجة الموت، وتنفيذ عملية غدر بقانون الغدر الذي جري تعديله، وحتي يعيق عملية العزل والتطهير الشامل، ويترك المؤسسات علي عفنها الموروث، وبذات الشخوص المختارين من جهاز أمن الدولة الذي لم ينحل، وعلي سبيل تسهيل المهمة، وبعنوانها المتفق عليه أمريكيا وإسرائيليا، وهو احتواء الثورة وتفريغها من مضامينها، وإتاحة الفرصة لإعادة ترميم نظام مبارك بدون مبارك نفسه. والمحصلة: أننا بصدد ثورة مضادة كاملة الأوصاف، تسندها فئات في الشارع، وفي السلطة، عند مركز القرار هناك الصندوق الأسود، وفوائض الضغط الأمريكي الإسرائيلي الداهس، وفي فضاء الشارع فئات كانت دائما ضد نزعة الثورة، وتفضل آداء الخدمة الدينية في كنف جهاز مباحث أمن الدولة، وتستقوي بفوائض المال السعودي والخليجي بعامة، ويفسح لها المجال في الظهور، والاستيلاء علي المؤسسات والساحات، وتنشر الظل الأسود علي النواصي، وتقتات علي بؤس ويأس الغالبية الغاطسة من المصريين، وتريد قطع يد الثورة، وفي تحالف ضمني مع الرغبات الأمريكية والإسرائيلية، وفي قطيعة تامة مع أي نداءات أو تجمعات لإنقاذ الثورة المغدورة، وفي سعي محموم للإحلال، أو لتقاسم السلطة مع فلول نظام مبارك، وطي ملف الثورةكلها، وإشاعة الفوضي المرتبة، وتكفير المصريين بفعل ثار ويثور. باختصار، يبدو مشهد اللحظة مقبضا، وداعيا للإحباط العام، تبدو الثورة تحت الحصار، فالمشهد أمام السفارة الإسرائيلية هو ذاته المشهد في ميدان التحرير، الجدار الحامي أمام السفارة يقصد به تحصين الإسرائيليين من غضب المصريين، والجدار الدائري في ميدان التحرير يقصد به تحصين المجلس العسكري من غضب الثائرين، كتل الأسمنت تحمي سفارة إسرائيل، وكتل الشرطة العسكرية والأمن المركزي تستولي علي الصينية الرئيسية في ميدان التحرير،وتحمي سياسة التباطؤ والتواطؤ، والمجلس العسكري يكرر غباوة مبارك بالحرف، ويتصور أنه في الحرز المكين، وأن بوسعه إعدام الثورة ودفن طلائعها، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وحجزهم عن التظاهر وإشهار الغضب، وقد