لو كانت الرغبات خيولا لامتطاها الفقراء .. ولأنها ليست كذلك ستجدنا متلاحمي الاجساد داخل عربة مترو الانفاق ، يوحدنا الوجوم , كل منا يحمل فوق رأسه حقيبة ضخمة من الهموم والالتزامات و الاحلام المؤجلة , هكذا اعتدنا دوما ان نكون , يتحمل كل منا الاخر , صابرا على الجو الخانق و سوء التهوية , والكثافة العددية الضخمة لمستقلي العربة , تسال سيدة الى جواري صديقتها " هو الجو مكتوم كده ليه هنفطس؟ " تجيبها صديقتها في بساطة حال " امال ايه مش احنا تحت الارض ؟ " يجتاحني شعور بالأسى لإجابتها البسيطة المرضية لنفسها , متجاوزة عن الاسباب الحقيقية ؛ نعد المحطات الواحدة تلو الاخرى , وكلما نزل احدهم الى مقصده اكاد اسمع شهقة خلاصه فور خروجه من باب العربة. لماذا لا نلوم احدا على التقصير في اداء عمله ؟ اخوفا من ان نلام نحن بدورنا ؟ ام انه نوع اخر من نظرية "المشي جنب الحيط" ؟ كيف ستتبدل احوالنا الى الافضل دون المحاولات والخطأ , التطوير والتعديل , الرقابة و تعلم الجديد ؟ كيف لإجابات مريحة سهلة ان تخلق واقع افضل ؟ قاطع تفكيري صوتها الجهوري ذو اللكنة الصعيدية الواضحة , تحولت نحوها الانظار , كانت امرأة عجوز , ترتدي جلباب اسود رث , تستطيع المشي بالكاد ورغم ذلك تحمل حقيبة قماشية شديدة الثقل , تنتقل بها في جنبات العربة , عارضة مجموعة من الكتيبات متنوعة الموضوعات للبيع , لا لم تكن تشحذ او تستجدي العطف , لقد كانت تلقي ابيات شعرية رائعة , ذات طابع خاص جدا , تهتف بها بكل ما فيها من قوة: متزعليش يا مصر متزعليش يا حنينة متزعليش يا مصر الخير جواكي باقي متزعليش يا مصر ولدي فداكي راح ولدي حبيبي شهيدك يغسل بدمه جراح ياست الكل يا بلدي يا مصر يا زينة الملاح كانت كلمة مصر تخرج من اعماق اعماق قلبها , اقشعرت لصوتها الابدان , كلما قالت مصر تراقص الدمع في عيني , نعم هي مصر , بكل ما فيها من جنون وتناقضات , تلك هي مصر , تستطيع ان تخلق الفرح في قلب الحزن , وتستخرج الضحكه من وسط الدموع , ذلك هو شعبها العبقري ذو الروح الذهبية , يرسم الابتسامات العريضة فوق شفاه مرارة الواقع , تظنه خانع ولكنه بركان , صمته دوما هو الصمت الذي يسبق العاصفة , وغضبه هو غضب الحليم فحذره , فربما اجاب نفسه اليوم بإجابات سهله مريحة وآثر الصمت والسلامة , ولكن ذلك لا يعني ابدا انه لا يعرف الاجابات الحقيقية , وانه حتما في يوم ما سيفعل وسيقول. القت العجوز ابياتها وغادرت في المحطة التالية , تاركة ورائها املا في قلبي يقول لي بان ذلك الشعب باقي ما بقى التاريخ , كما كان موجودا منذ بدايته , مادمنا لا نخشى الاحلام , ولا نتوقف عن التمني , حتما سنكون , وسيكون غدنا افضل بمشية رب العالمين.