قد يجد ساكنى الأدوار العليا ميزة أو أكثر ،تهون عليهم صعود السلالم الشاهقة ( إذا كانت العمارة عارية من المصاعد) .. وقد تظهر لهؤلاء مزية في إرتفاعهم عن الأرض أو أخرى في إتصالهم بالسماء..فإذا صخبوا لايسمعهم المتطفلون من مارة الشارع وإذا ابتهلوا ظنوا أنفسهم ملأً سماوياً ينتمي في أصله إلى التراب .. ولكن يمكن الجزم بأن هاتين الميزتين لاتزالا رهن الإفتراض النظري ..يتحداه بقوة واقع "عملي" هو ببساطة أن ساكن الدور الأخير - مثلي- رغم أنه الأعلى عن أضواء وزحام الشارع ولكنه الأدنى من جاره ساكن السطح الذي أراه - بالتالي -أفضل حالاً !! مرت هذه الخواطر في ذهني سراعاً وأنا أقلب بصري في السماء وهي تعصر السحب عصراً ينثر قطرات الغيث على خلق الله من بشرٍ وشجر ودواب .. وبدأت أتهيأ للدعاء ..رفعت رأسي أكثر ..مددت يدي ..تنهدت وأنا أسبل عيني في تبتل وقلت.. - يارب ... فلم تتم الكلمة حتى صدتها كلمة أخرى وجملة جائتني من فوقي في لحن .. - يا ليل !! يا ليل السهارى التعبانين يابا!!! وكانت الجملة إفتتاحية لوصلة من الدندنة والصفير أعقبتها "طقطوقة" يبدو أنها من نظم وتلحين مؤديها ..لأنها ببساطة تحوي جملاً وألفاظاً يعاقب عليها القانون ! ..أما المطرب فهو " عبده" ولا أعلم له غير هذا الاسم حسبما يقال له كل صباح على مسمع مني : اتنيل اصحى ياعبده .. بقينا الظهر!! و منطقياً أن ينام عبده للظهر إذا عرفنا أنه يناجي " ليل السهارى التعبانين "حتى مطلع الفجر .. وعبده شاب في الثلاثينات ..لم أره ولم ألتق به.. ولكن قيل لي أنه يحمل شهادة متوسطة لم تؤهله لأي عمل فاحترف الصعلكة في الطرقات نهاراً والغناء على السطح ليلاً.. أما سهراته فوق سطحنا فلا تكاد تخلو غالباً من الجوقة وهم نفر من أصحابه يرددون أغانيه ويستحسنون ألحانه فضلاً عن صوته المحشرج من أثر الأعجوبة ذات الأنفاس..المسماة بالجوزة ! ويبدو أن جوقة عبده ليست أفضل حالاً منه إذ يوحد الجميع اليأس والسخط على الحياة مثلما يفرقهم ضوء النهار حتى أن ضجرهم يتعدى الحياة إلى ما بعد الموت.. سمعت أحدهم يقول لعبده : - هات ولِعة.. أجابه : خد .. ربنا يجعلك من أهلها ! ..ثم أمّن الموجودون في صوت واحد ! ويوماً سمعت عبده يغني عن حبه لفتاة سمراء ..راح مرة بعد مرة يتغزل في لونها الأسمر حتى سأله أحدهم: - هو مفيش حاجة في البت دي غير سمارها؟ - أصلها كانت دايسة بنزيم ( بنزين) على الآخر ..يا دوب شفت لونها .. مش كفاية اللون ولا إيه؟ - أومال حبيتها إزاي؟ - محبتهاش لسه.. إنما فوانيسها مجنناني!! و غاصت الجوقة في بحر من الضحك فقد كان يقصد سيارة فارهة سوداء! لا أذكر كم مرة سمعته و هو يدندن بألحانه الفاحشة الساخطة على الحياة أويتغنى مع رفاقه بقصص عجيبة ساقطة أو قل كم مرة شمَّ أنفي رائحة الدخان الأزرق .. ولكن مرة واحدة سمعته وحده يحاول تلحين هذه الجملة.. - فينك يا حظ !؟ وظل يرددها حتى بكي وانتحب ..فقررت متردداً أن أصعد إليه في اليوم التالي ربما أستطيع مساعدته .. وفي الصباح استيقظت على جلبة تدب فوقي وصيحات ترددت بين جنبات السطح ..تصرخ : - حدش شاف عبده ياجماعة؟ وإختفى عبده.