فى أحاديث العامية المصرية المتداولة، وفى اختصاراتها وتشبيهاتها البليغة، كثيرا ما تصادف كلمة «أمريكانى»، وهى تعبر عادة عن الشىء أو السلوك المزيف أو «الفالصو»، وتنصرف إلى خداع المظاهر الذى يناقض الجواهر، كأن يعلنك أحدهم بقضية ما على عنوان غير عنوان بيتك، ثم تفاجأ بحكم بالحبس أو الغرامة المغلظة، ودون أن يكون لديك علم من أصله، أو فرصة لترتيب دفاع أو إثبات براءة، وهذا الإعلان «الأمريكانى» كثيرا ما يستخدمه محامون سيئو السمعة، أو عصابات منظمة تريد سرقتك بصورة تبدو فى ظاهرها قانونية جدا«!»، سلوك «أمريكانى» آخر يبدو لك جليا فى سوق السياسة، كأن يتبجح أحدهم بثوريته، بينما يكون المتبجح مجرد «فل» أو عبد للفلول، على أن اللفظة ذاتها- أمريكانى- لها معنى سياسى مباشر فى حياتنا، وهو معنى الولاء للسياسة الأمريكية، والعمل فى خدمتها، خاصة فى بلد تحول عبر الثلاثين سنة الأخيرة إلى مستعمرة أمريكية، وصارت «الأمريكانية» هى العلامة المميزة للسياسة المصرية الرسمية، منذ زعم الرئيس السادات أن 99٪ من أوراق اللعبة بيد أمريكا، وإلى مبارك رجل واشنطن الأول فى المنطقة، وإلى أن جرى خلعه، ودون أن تنخلع معه العادة «الأمريكانية» الرذيلة فى السياسة المصرية الحاكمة حتى تاريخه. ويبدو الرئيس محمد مرسى فى صورة «الأمريكانى» النموذجى حتى الآن، وسواء تعلق الأمر بمعانى التزييف السياسى، أو بمعانى الولاء السياسى، فمرسى وقيادته الإخوانية «ثورة مضادة» بامتياز، بينما لا يخجل إخوان مرسى من وصفه برئيس الثورة، ومرسى وجماعته الإخوانية فلقوا دماغنا بالحديث عن معارضة أمريكا، ثم حين أصبحوا فى الحكم، ابتلعوا أقوال المعارضة، وصار الحج إلى واشنطن كأنه الفريضة الشرعية، والمسألة فى جوهرها أكبر من مرسى، والذى يبدو فى صورة المصلى العابد الزاهد طوال الوقت، وإلى حد أن صلاته، أو - بالدقة- رغبته فى مراءاة الناس بصلاته، هذه الرغبة صارت تنزح بالملايين من الخزانة المصرية المنهكة، فصلاته-مثلا- فى مسجد عمرو بن العاص كلفت البلد ما يزيد على الثلاثة ملايين جنيه، وبدا الرجل المتظاهر بالتقوى خائفا مرعوبا من الناس، فقد جلب معه إلى بيت الله خمسة آلاف من الجنود، وجماعات من قوات النخبة الخاصة، وحولوا الجامع العتيق إلى ثكنة عسكرية، وحرموا أغلب الناس من حق الصلاة فى هدوء ووقار يليق بالمناسبة الدينية العظيمة ولا أظن- وليس كل الظن إثماً- أن صلاة كصلاة مرسى تقبل عند الله، فهى أقرب للتظاهر بالصلاة، أو قل إنها الصلاة «الأمريكانى»، فلو أنه كان يريد فعلا الصلاة لله، لكان بوسعه فعلها فى مسجد منعزل عن الناس، لا يقطع عليهم طريقهم، ولا يعكر صفو يوم عيد الفطر بجحافل قوات الحراسة، فمرسى كان يفتح صدره استعراضا فى ميدان التحرير، ويبعد الحراس، ويدعى أنه لا يخاف، لكنه انتقل فى بضعة أسابيع من موقف المتظاهر بالشجاعة إلى موقف المتسربل فى رداء خوفه، وكما بدا أن شجاعته الأولى المدعاة من النوع «الأمريكانى» بوصف العامية المصرية، فقد بدت صلاته الخائفة من النوع نفسه، صلاة «أمريكانى»، يتظاهر بها أمام الناس، ويدارى خيبة ثقيلة تلحق به، وتكشف زيف ادعاءاته فى برنامج المائة يوم، فقد وعد برنامجه الانتخابى بحل مشكلات الطاقة والخبز والمرور والنظافة والأمن فى المائة يوم الأولى بعد تنصيبه، وقد مر ما يقارب ثلثى المدة إلى الآن، ودون أن يتحقق شىء مما وعد به سيادته، بل زادت الطينة بللا، وأضيفت مشكلات انقطاع المياه والكهرباء، وتاهت مصر فى ظلامها وعطشها، وتفاقمت مظاهر الفوضى الأمنية، وتحول البلد كله إلى ميادين بلطجة، وكل ذلك يحدث، بينما الرئيس غارق فى متاهته، وخاضع لنصائح خبراء أميين فى صناعة الصور، تصوروا أن صورة «الرئيس المصلى»، وأن ابتزاز المشاعر الدينية، تصوروا أن اللعبة تنطلى على الناس، وتتخفى بالخيبة، فقد زاد الأداء الإدارى للدولة انحطاطا على انحطاط، وبدت حكومة مرسى الأولى كأنها لاتزال فى مرحلة الحضانة التعليمية، وتجرب أن تتعلم الحلاقة فى رءوس الغلابة المصريين، مع أن كل المشكلات التى وعد مرسى بحلها لا تستلزم سوى الضبط الإدارى، وليس مظاهرات المقشات «الأمريكانى» التى كلفوا بها شباب حزبه الإخوانى دعما لرئيسه، فلم يلمس الناس فرقا، أى فرق، وزادت جرعات البؤس والقبح اليومى فى حياة المصريين، كل ذلك يحدث، بينما الرئيس مشغول بتلميع صورته، والتعويض عن عجزه المقيم بإرهاب الصحافة والإعلام، والتكرار الهزلى لما كان يفعله مبارك فى أيامه الأخيرة، وكأن مرسى جاء ليكمل أخريات مبارك فى أوليات أيامه، فمرسى وجماعته الإخوانية لا يملكون بضاعة أخرى، ولا اختيارا آخر مختلفا عما كان، وكلنا يذكر ما وعد به مرسى من إقامة محاكمات جدية، ومن قصاص للشهداء، ومن إعادة المليارات المنهوبة، ثم ذهبت الوعود كلها مع الريح السموم، ثم فوجئ به الناس يكرر نفس العادة الرذيلة الموروثة عن مبارك، والتى يدفع ثمنها الشعب المصرى فى صورة ديون خارجية وديون داخلية، فاقت فى جملتها ما يزيد على إجمالى الدخل القومى بمرة ونصف المرة، وتثقل كاهل أجيال الأبناء والأحفاد، وكما كان مبارك يقول: لن يقصف قلم ولن تغلق صحيفة فى عهدى، فقد كرر مرسى التعهد نفسه بالحرف، وأضاف إليه «ولن تغلق قناة تليفزيونية»، وكما كان مبارك يعد وينكث، فقد مضى مرسى على الطريق نفسه بالضبط وبدأ عهده بشن حملة تتارية لإرهاب الأقلام وحظر الكتاب ومصادرة الصحف وإغلاق القنوات، يريد أن يطفئ الأنوار، وحتى لا يرى أحد سوء فعلته «الأمريكانى»، فقد جرى استدعاء مرسى إلى واشنطن فى زيارة أولى قريبة لكعبة مبارك، وفى الطريق إلى الزيارة، كان عليه أن يقدم فروض الطاعة، وأن يتقبل أوامر الأمريكيين بصدد وضع القوات المصرية فى شرق سيناء، وأن يوافق على اجتماع عسكرى مع الإسرائيليين عند معبر «كرم أبوسالم»، وبهدف الاتفاق على كل حركة وسكنة للقوات المصرية، وهكذا سلم مرسى- على طريقة مبارك- بوصاية الأمريكيين والإسرائيليين على توزيع القوات المصرية، ثم عادت «ريما» بسرعة الضوء إلى عادتها القديمة، وجرى الإقرار بالسيطرة الأمريكية على اقتصاد مصر المنهوب، والتسليم بحق واشنطن فى توجيهه من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين، عاد البنك الدولى إلى دوره القديم فى صياغة أولويات الاقتصاد المصرى، وبقرض أولى بلغت قيمته مائتى مليون دولار، ثم عادت الحركة النشيطة لاستجداء صندوق النقد الدولى وتسول قرض جديد قيمته 4.8 مليار دولار، وجاءت كريستين لاجارد- مديرة الصندوق- لإملاء ذات الشروط القديمة الجديدة، والتى كان يخضع لها مبارك ونجله فى لجنة السياسات البائدة، وتماما كما يخضع مرسى ومكتب إرشاد الإخوان الآن، وسكتوا عن أحاديث «الربا» ورفض قروض الربا، وعن تظاهرهم «الأمريكانى» السابق بمعارضة قرض صندوق النقد الدولى زمن حكومات المجلس العسكرى، وعادت الحياة إلى الكلمة الكئيبة التى خربت البلد، والتى تدعى أنها تهدف إلى «الإصلاح الاقتصادى»، وظل مبارك يكرر كلمة «إصلاح اقتصادى» إلى أن عم الخراب، وقد عاد مرسى وحكومته إلى الكلمة سيئة السمعة نفسها، وقال رئيس وزراء مرسى إن برنامج الإصلاح الاقتصادى مصرى مائة بالمائة، ياإلهى، إنها نفس الجملة بالحرف التى كان يكررها مبارك ورؤساء حكوماته كلما أحسوا أنهم يرتكبون جريمة بقبول شروط صندوق النقد الدولى، وكنوع من التعويض النفسى والضحك على الذقون، وهكذا يفعل مرسى وصحبه، يؤكدون الولاء لسياسة احتلال البلد اقتصاداً وسياسة، ويترجمون شروط واشنطن المسيطرة على صندوق النقد والبنك الدوليين، ينقلونها من الإنجليزية إلى اللغة العربية، ثم يدعون أنها مصرية مائة بالمائة لستر العورات، بينما القصص كلها مكشوفة، وكلها ألعاب «أمريكانى» ياريس مرسى