نفى مؤسسة الرئاسة للدور الأمريكى فى قرارات مرسى الإطاحة بجنرالات المجلس العسكرى بدا هزيلا، وجاء على طريقة «يكاد المريب يقول خذونى»، فقد تحدثت قناة الجزيرة- المتهمة بموالاة الإخوان- عما وصفته بالارتياح الأمريكى لقرارات الرئيس المصري، ونقلت بالصوت والصورة رد المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية على أسئلة الصحفيين بخصوص ما جرى فى مصر، كان ذلك فى اليوم التالى مباشرة لإعلان القرارات، وقالت المتحدثة الأمريكية الرسمية - بوضوح- إن الإدارة الأمريكية كانت تعلم بما جرى مسبقا، وتحديدا خلال زيارة هيلارى كلينتون للقاهرة التى جرت قبل أسابيع، وكان غريباً أن يتحدث نفى الرئاسة الهزيل عن الاتصال بالمكتب الإعلامى للخارجية الأمريكية، وأن الاتصال الوهمي- إياه- أثمر نفيا وهميا لم يقرأه ولا شاهده أحد(!) ما علينا، المهم أن القرارات اتخذها مرسي، أو اتخذت له، ونتائجها المباشرة واجبة التأييد من منظور ديمقراطي، فهذه أول قرارات ذات معنى تنسب للرئيس مرسي، وقد صار- وفقا لها- رئيسا كامل الصلاحيات، بل إن صلاحياته زادت عمليا عن أى رئيس سبق، وجمع فى يده سلطات التنفيذ والتشريع معا، أى أنه صار رئيسا منتخبا بدرجة ديكتاتور، ولم يعد بوسع قيادة الإخوان أن تتحدث عن غل يد الرئيس، أو عن عدم مسئوليته عن خراب المرافق والخدمات، وعن انقطاعات المياه والكهرباء، وعن النهضة الموهومة التى لم ير منها الناس بعد غير الظلمة السابغة فى الشوارع والمنازل، وغير المطاردات المحمومة لحرية الصحافة والإعلام، وإغلاق الصحف وقنوات التليفزيون، فهذه كلها ممارسات همجية منقولة بالنص عن ممارسات مبارك فى أيامه الأخيرة، والمؤسف أن يقدم عليها مرسي، وهو لايزال فى أيامه الأولي، وأن تجرى على ذات الطريقة المشينة المألوفة فى عهد المخلوع، إذ يتقدم محامون أو أشخاص مجهولون، وعلى مسافة قرب أو انتساب لحزب الإخوان، يتقدم هؤلاء ببلاغات مطاردة المعارضين، تماما كما كان يفعل المحامون المغمورون من أعضاء حزب المخلوع فى زمنه، وقد لا يصح هنا الاحتجاج بنوعية المطاردين الذين بدأ بهم العصف، وما إذا كانوا من طراز توفيق عكاشة ورضا إدوارد، وهؤلاء ممن نختلف معهم فى الرأى بالجملة، والأهم أننا نختلف فى البواعث، لكن الحرية لاتتجزأ، وأبسط مبادئ الحرية أن تدافع عن حرية المخالفين قبل الموافقين، أن تدافع عن حرية كل الناس ، فقد خلق الله الناس أحرارا، وأطلقت الثورة حرية الأقلام والأفواه، ولايصح تقييد حرية الناس بأى معني، فما بالك بالتحول إلى البلطجة والاعتداءات المباشرة على إعلاميين وصحفيين، وملء رئاسات تحرير الصحف القومية بالنوعية ذاتها من المنافقين والمرتزقة وكتاب التقارير، والادعاء بأننا بصدد تطهير الإعلام، مع أن ما يجرى هو عين التلويث والتدليس. نعم، قضى الأمر، ولم يعد ثمة التباس من أى نوع، فنحن بصدد سلطة كاملة الأوصاف فى يد قيادة الإخوان، وفى يد الرئيس المنتدب من قبل مكتب الإرشاد، وقد فاز بفارق ضئيل فى انتخابات الرئاسة، وكنا ممن دعونا لانتخابه اضطرارا لا اختيارا، وعلى طريقة أكل الميتة ولحم الخنزير، والمعنى أنه رئيس منتخب، وقد يتأخر حسابه بالجملة إلى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن الحساب بالقطعة، ومن أول يوم لتنصيبه، والرقابة والمحاسبة اللصيقة ذات الطابع اليومي، كل ذلك من ابجديات ومبادئ الديمقراطية، ولا معنى للحجر على حرية نقد الرئيس، فالرئيس مجرد موظف عام، وتحمل النقد هو ضريبة الوظيفة العامة، وكلما علا شأن الوظيفة تأكد حق النقد أكثر، وحين تستدعى قيادة الإخوان حكاية إهانة الرئيس، فهى تستدعى أحط ما فى مواد قانون العقوبات من قيود على حرية الرأي، وخاصة ما ورد فى المادة 179 من قانون العقوبات، والتى تحرم وتجرم نقد الرئيس بدعوى كونها «إهانة»، وعلى طريقة العيب فى الذات الملكية، وتلك قوانين وضعت فى ظل ديكتاتوريات طاغية، وكان ينظر إليها كمواد ميتة لاتستخدم إلا فى النادر، وقد كان كاتب السطور هو أول صحفى تعرض للمحاكمة بتهمة إهانة الرئيس مبارك، جرى ذلك فى القضية المشهورة باسم «رؤساء التحرير الأربعة»، وكنت فيها وحدى متهما بإهانة الرئيس، وكانت الدعوى على طريقة الحسبة ذاتها التى تستخدمها جماعة الإخوان الآن، إذ يتقدم شخص آخر بالدعوي، وعلى غير مقتضى يجيزه القانون فى قضايا النشر، إذ يتوجب أن يتقدم المتضرر، ويدعى بشخصه لا بالوكالة الموهومة عنه، ولم تفلح الدعوى فى أيام مبارك فى كسر قلمي، وظل مقالى المتهم «أشعر بالعار لأنك الرئيس» عنوانا على ما كان يجري، وتمهيدا لما جرى بثورة شعبية اقتلعت مبارك، وقد يظن مرسي، وقد تظن قيادة الإخوان، أنها تملك أن تفعل ما كان يفعله مبارك، ثم يفلت مرسى من مصير الخلع ذاته الذى انتهى إليه مبارك، قد يظنون أنهم أشطر من مبارك أو أكثر قوة وعنتا وديكتاتورية، أو أكثر إفزاعا وإرهابا للناس، وهذه كلها أوهام سوف تسقط تباعا، وبحركة الناس فى الشارع، ثم بالثورة المقبلة فى صناديق الانتخابات. وقد كنا أول من طالب بإسقاط حكم المجلس العسكري، ومحاكمة جنرالاته، ولسبب موضوعى ظاهر، وهو أن الجنرالات كانوا جزءا لايتجزأ من إدارة مبارك، وقد تطورت الثورة الثانية ضد المجلس العسكرى بدون مشاركة الإخوان المسلمين، وكلنا يتذكر قوافل الشهداء الذين سقطوا فى حرب الشارع ضد حكم المجلس العسكري، ومن أول مظاهرات ميدان التحرير فى 19 نوفمبر 2011، ثم توابعها ولواحقها فى محمد محمود وشارع مجلس الوزراء، وحتى صدام العباسية الشهير، وكان إخوان مرسى ضد هذه المظاهرات جميعا، بل ووصفوا شهداء «الثورة الثانية» بالبلطجية، فقد كانوا مشغولين وقتها بعقد الصفقات إياها مع المجلس العسكري، وكان ذلك فى تقديرنا- وقتها- من طبائع الأمور، فالمجلس العسكرى كان عنوانا للثورة المضادة، وقيادة الإخوان كانت أقرب لحركة الفلول، وشكلت جناحا مدنيا للثورة المضادة، كان زواج المصالح الكبرى هو العقد الخفي- الظاهر بين الطرفين، وكانت روابط الاثنين معا مع الإدارة الأمريكية المهيمنة على مصر توثيقا للصلة فيما يشبه مصلحة دولية للشهر العقاري، كان المجلس العسكرى فى حالة زواج رسمى مع العم سام، وكان «الزواج العرفي» بين جماعة الإخوان والعم سام يتقدم إلى مظاهر إشهار رسمي، وكانت احتكاكات الطرفين التى تظهر أحيانا نوعا من الغيرة والمعارك الزوجية المفهومة، وفى لحظة تنصيب مرسى، قرر العم سام تطليق الجنرالات، واعتماد مرسى كجنرال أول لأمريكا فى مصر، ومع حفظ حقوق الأمان والنفقة للجنرالات، وهذا ما فعله مرسى بالضبط، فقد ضمن الخروج الآمن للجنرالات، والنجاة من العقاب على جرائم المال والدم التى ارتكبوها، فقد سعى المجلس العسكرى إلى تحصين جنرالاته، وحصل من برلمان الأكثرية الإخوانية على التحصين المطلوب، وبإجراء تعديلات على المادة (8) فى قانون الأحكام العسكرية، وافق عليها برلمان الإخوان بأوامر مكتب الإرشاد، وقضت التعديلات بتحصين العسكريين من المساءلة أمام القضاء العادى حال اتهامهم بجرائم نص عليها قانون العقوبات وقانون الكسب غير المشروع، وأن يمتد هذا التحصين إلى العسكريين بعد خروجهم من الخدمة، أو إحالتهم للتقاعد، وهذا مما يصح أن تنتبه إليه القوى الثورية الآن، وأن تصر على محاكمة الجنرالات الذين كرمهم مرسي، وفى حالة امتناع مرسى، فلابد من الإصرار على محاكمة مرسى مع جنرالات الصفقات من وراء الكواليس، وقد بدأت البلاغات تنهال ضد الجنرالات بعد خروجهم، ولا تستبعد مصادر وثيقة الصلة أن تنتهى رحلة طنطاوى وعنان إلى سجن طرة. لقد أزاحت الثورة- إلى الآن - طغيان مبارك وعائلته، ثم أزاحت طغيان المجلس العسكرى الذى جاء حكمه بالتوافق مع مبارك، وهى قادرة- بإذن الله- على إزاحة طغيان الإخوان الذى جاء بالتوافق مع الجنرالات المتقاعدين ومع «ماما أمريكا»، ولا حل إلا بأن تشكل الثورة حزبها وتيارها الشعبى الواسع، وأن تبدأ الموجة الثالثة للثورة بعيدا عن تحركات فلولية بائسة من النوع المدعو إليه فى 24 أغسطس الجاري، فنحن نريد- هذه المرة- ثورة كاملة الأوصاف، تستقطب أصوات الشعب المصري، وتحشدها فى حركة منظمة دؤوبة، تسقط طغيان الإخوان فى انتخابات حرة، أو تسقطهم بثورة الشارع إذا لجأوا لتزوير الانتخابات على طريقة المخلوع تم نشرم بعدد 610 بتاريخ 20/8/2012