فتحت عودة السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان إلى بلاده بعد رحلة علاجيه في ألمانيا استغرقت نحو ثمانية أشهر الآفاق مجددًا نحو ممارسة الدبلوماسية العمانية مبادراتها الخلاقة للعمل على تهدئة الملفات الإقليمية الملتهبة في منطقة الخليج والشرق الأوسط، ارتكازًا إلى ما تتمتع به الدبلوماسية العمانية من مصداقية وحيادية وحكمة في تفاعلها مع محيطها الإقليمي والعربي والدولي، فضلاً عن خصوصية السياسة العُمانية في المحافظة على علاقات ودية مع دول الجوار، وفي تعاطيها مع القضايا الإقليمية الساخنة التي تطفو دائماً على سطح الأحداث. ونظراً لخبرتها التاريخية في كسب الأصدقاء وتجنب العداوات مع الآخر، والتي تجسدت مبكراً في عدم قطع علاقاتها مع مصر إبان معاهدة السلام ، رغم قطع معظم الدول العربية علاقات مع مصر، وسياساتها ومواقفها المشرفة دائماً تجاه مصر بفضل التوافق في السياسات والرؤى تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط، كما أن العلاقات بين البلدين تضرب بجذورها التاريخية منذ القدم ، ولذا باتت سلطنة عُمان مرشحة للقيام بدور محوري مجددًا في الملفات الساخنة ، ليس في منطقة الخليج فحسب، ولكن في الملفات الإقليمية والدولية ذات التداعيات على أمن واستقرار المنطقة برمتها. ولعل من أبرز الملفات الساخنة التي تلقي بظلالها على مستقبل الأمن في المنطقة، ملف الأزمة في اليمن، حيث ترتبط سلطنة عمان بعلاقات متوازنة مع طرفي الصراع تتجلى في كسبها ثقة طهران وقدرتها على تبديد هواجس الغرب ودول الخليج. حيث يتفق كثير من المحللين السياسيين على أن سلطنة عمان تمتلك من الأدوات والآليات والمؤهلات ما يكفي لأن تحتفظ لنفسها بدور الوسيط النزيه بعيداً عن سياسة المحاور. ويُجمع المحللون على أن للسلطنة دوراً فاعلاً ضمن جامعة الدول العربية، وفي مجلس التعاون الخليجي، وفي المحافل الدولية، وفي أروقة هيئة الأممالمتحدة والمنظمات المنبثقة عنها. وهو ما عبّر السلطان قابوس عنه بقوله"نحن دائماً إلى جانب الحق والعدالة والصداقة والسلام، وندعو إلى التعايش السلمي بين الأمم، وإلى التفاهم بين الحضارات، والى استئصال أسباب الكراهية والضغينة التي تتولد في نفوس من يعانون من الظلم وعدم المساواة"لماذا الآن"؟ ثمة مجموعة من الاعتبارات الواقعية الحاكمة والتي تجعل من الدور العماني أمراً ضرورياً وهي: أولاً: أن سلطنة عمان تمتلك من الرصيد الاستراتيجي ما يكفي للقيام بدور الوسيط النزيه وتقديم المبادرات لحل الأزمة في اليمن، مثلما نجحت في تهيئة المناخ والبيئة المناسبين لتسوية الملف النووي الصعب بين الغرب وإيران وإزالة الهواجس لدى دول مجلس التعاون الخليجي. ثانياً: أن منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة تموج بالتفاعلات السياسية الحادة، ليس بين بعضها البعض بقدر ما بينها وبين القوى الإقليمية والدولية الأخرى من أجل العمل على تغيير موازين القوى في المنطقة ترسيخاً لمصالح أطراف على حساب أخرى، وخاصة بعد الأحداث التي شهدتها معظم الدول العربية في عام 2011 والتي عُرفت بالربيع العربي. ثالثاً: أنه في ظل الوضع المعقد خليجيا وإقليميا، لا ترى مسقط بدا من الدخول على خط الملفات الساخنة بما يتفق مع رؤيتها لأمن المنطقة ويكرس استقلال قرارها، سواء ما يتعلق بأمن منطقة الخليج والأمن والسلم والاستقرار العالمي. وبالرغم من أنها أحد مؤسسي مجلس التعاون الخليجي، ترفض مسقط أن تكون ساحة لنفوذ أي من اللاعبين مؤكدة في أكثر من موقف استقلال قرارها على صعيدي السياسة والاقتصاد. رابعا أنه وبعد عودة السلطان قابوس من المنتظر أن تلعب سلطنة عُمان دورا محوريا في الأزمة اليمنية بالنظر لعلاقتها المتوازنة مع طرفي الصراع، إذ تقف السلطنة على مسافة واحدة من الجميع، وفي ظل عمق العلاقة بين إيران ومجموعة الحوثي، يرى مراقبون أن مفتاح حل الأزمة بات بيد مسقط نظرا لكونها تحظى بثقة طهران وبإمكانها تبديد هواجس الخليجيين والغربيين في ذات الوقت. وقد يتعزز الدور العماني بعدما سحبت واشنطن جنودها من جنوب اليمن ، ووصلت المبادرة الخليجية إلى طريق مسدود بعد استيلاء الحوثيين على معظم المحافظات اليمنية ورفضهم الحوار مع الرئيس عبد ربه منصور هادي في العاصمة السعودية الرياض. دلالات العودة داخليًا تتوالى أصداء عودة السلطان قابوس، ليس فقط في مختلف العواصم العربية تقدير لدوره ومكانته ووسطية سياسته وإعلائه لقيم التسامح والسلام، وإنما في داخل المجتمع العماني، إذ تتواصل مسيرات الحب والعرفان من جموع المواطنين ، وفي ذلك عدة دلالات أهمها: أولًا: أن السلطان قابوس استطاع بناء نظام سياسي مؤسسي حديث بصورة متدرجة وسليمة، وخلق وإنشاء مؤسسات وهياكل لمواكبة التحديث والتطورات العالمية وبطريقة تحول دون دخول البلاد في توترات سياسية مفاجئة. فالسلطان لم يقف يوماً أمام المطالب بالتحديث، ولكن يحكم حركتها وفقًا لمنظومة عامة تحافظ على الأمن والاستقرار في المجتمع العماني. ثانيًا: يحظى السلطان قابوس بشعبية كبيرة بين أفراد شعبه رغم المصاعب الاقتصادية التي خرجت باحتجاجات مطلع عام 2011 والتي استجاب فيها بحكمة وروية لمطالب المواطنين بتوفير الوظائف، فلم تكن الاحتجاجات على شخصية ورمز ومكانة السلطان قابوس، وإنما كانت للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والمتابع الاقتصادي يلحظ ما تحقق من مستويات متقدمة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي انعكست على المواطن، رغم قلة الموارد الاقتصادية المتاحة. ثالثًا: أن جهود وخطط التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة خلال 45 عامًا أوجدت حالة من الرضاء الاجتماعي، إذ انعكست هذه الخطط والاستراتيجيات على حياة المواطن البسيط ولامست احتياجاته ومتطلباته الحياتية، وتمت ترجمة ذلك في مؤشرات منها ارتفاع مستوى الدخل، وتحقيق مستوى متقدم في كل الخدمات التعليمية والصحية والبيئية وإقامة بنية تحتية تحقق التقدم المنشود والخطط المستقبلية.