المهرجانات تتلاحق وأنا أترك نفسي نهباً لها فاتحاً دائماً ذراعي لإرادتها.. جداولها هي جداول حياتي.. أصحو طبقاً لعرض أول فيلم وأنام بعد مشاهدة الفيلم الأخير.. مواعيد المهرجانات هي دستوري الدائم الذي لا أستطيع أن أخالفه مهما كانت الأسباب فجر الثلاثاء القادم أستقل الطائرة الفرنسية "آيرباص" المتجهة إلي باريس ومنها في طائرة صغيرة إلي "نيس" ثم أتوبيس إلي "كان" وأصعد إلي غرفتي التي أقطن بها علي مدي 18 عاماً حجرة صغيرة جداً تحتوي علي سرير ومنضدة ودولاب وثلاجة وكرسي.. وملحق بها حمام لا يسمح لك بالاستحمام إلا واقفاً فقط.. رصيدي في كان 18 دورة لم أتخلف دورة واحدة عن حضور مهرجان "كان" رغم ما أتكبده من نفقات يزداد معدلها عاماً بعد عام بسبب قوة "اليورو" أمام ضعف الجنيه المصري وهوانه علي كل العملات الأجنبية وأترحم دائماً علي أيام الفرنك الفرنسي الطيب المتواضع.. أتابع في المهرجانات الأفلام والندوات وأيضاً الوجوه.. وجوه البشر وأري كيف يرسم الزمن بصماته التي لا تمحي علي وجوه زملائي وأقول من المؤكد إنهم يشاهدون الزمن وهو ينطق بل يصرخ علي ملامحي ولكني أطمئن نفسي قائلاً ربما يكون الزمن كريماً معي أو بتعبير أدق أظن ذلك وأرجو ألا يخيب ظني.. أري شحاذة في مدينة "كان" منذ 18 عاماً وهي تحمل طفلاً عمره عام وبعد مرور 18 عاماً لا يزال الطفل في عامه الأول إنها تذكرني بالشحاذين في بلادي حيث يؤجرون طفلا رضيعا ويظل للأبد رضيعاً.. أري القاعات والأشخاص حتي الذين لا أعرفهم شخصياً فأنا أراهم باعتبارهم من ملامح حياتي.. في مهرجان "كان" تستمع إلي هتاف يسبق عرض أي فيلم وأستمع إلي اسم "راؤول" ناقد فرنسي راحل تعود أن ينطق بصوت مسموع باسمه قبل عرض الأفلام وبعد رحيله لا يزال زملاؤه القدامي يهتفون بمجرد إطفاء نور القاعة قبل العرض "راؤول".. في المهرجانات نكتب عن الأفلام والندوات واللقاءات وحتي الكواليس بكل تفاصيلها لكننا لا نكتب عن أنفسنا وعما نشعر به لأننا لسنا آلات تذهب لتغطية المهرجانات.. إننا بشر وأعترف لكم أن أسوأ مشاهدة للأعمال الفنية هي تلك التي نجد أنفسنا مضطرين لحضورها في المهرجانات.. لأننا متخمون بكثرة الأفلام التي تتدفق علينا.. في اليوم الواحد قد يصل كم المشاهدات أحياناً إلي خمسة أفلام.. هل هذه عدالة؟! بالطبع لا نحن نظلم أنفسنا بقدر ما نظلم الأفلام.. لأنك بعد أن تشاهد الفيلم ينبغي أن تعايشه ليشاهدك الفيلم ويتعايش معك ولكن كيف يتحقق ذلك وأنت تلهث من فيلم إلي آخر.. ثم بعد أن نعود من السفر ينبغي أن تستعيد نفسك قليلاً قبل أن تشد الرحال إلي مدينة أخري ومهرجان آخر ووجوه تلتقي بها كثيراً ووجوه تشاهدها لأول مرة.. أسعد بالأيام وأشعر بالشجن علي الزمن الذي يسرق من بين أيدينا.. نعم المهرجان يعني عيدا وفرحة وبهجة وهو بالنسبة لي يحقق كل ذلك إلا أنه أيضاً يخصم من أعمارنا زمنا.. أشعر بمرارة الأيام والسنوات المسروقة.. يقول عبد الوهاب أنا من ضيع في الأوهام عمره.. أما أنا فأقول أنا من ضيع في المهرجانات عمره.. ولا أجد فارقاً كبيراً بين الأوهام والمهرجانات.. اليوم في "كان" وبعد أسابيع إلي "وهران" بالجزائر.. ولا تزال المهرجانات تواصل سرقة أعمارنا!!