تحدثنا أمس عن الإسلام السياسى والتقسيمات العديدة للإسلام وأكد الدكتور يوسف القرضاوى أن الإسلام واحد لا يمكن تصنيفه عن طريق التاريخ أو اللغة، وتوقفنا أمس عند مقولته إن الإسلام لابد أن يكون سياسيا. ويتوقف الشيخ القرضاوى أمام سببين لارتباط الإسلام بالسياسة أولهما أن الإسلام يوجِّه الحياة كلها، فله موقف واضح، وحكم صريح فى كثير من الأمور التى تعتبر من صُلب السياسة، فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبُّدية فحسب، وهو ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة. كلا.. إنه عقيدة، وعبادة، وخلق، وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصَّل من قواعد، وما سنَّ من تشريعات، وما بيَّن من توجيهات، تتَّصل بحياة الفرد، وشئون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأُسس الدولة، وعلاقات العالم. والسبب الآخر هو أن شخصية المسلم شخصية سياسية،إن شخصية المسلم لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فَهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له فالإسلام يضع فى عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر وقد يُعبِّر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهى التى صحَّ فى الحديث اعتبارها الدِّين كله، ويُحثُّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) المسلم على مقاومة الفساد فى الداخل، ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج. ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر فى الزنى، وشرب الخمر، وما فى معنيهما. فالاستهانة بكرامة الشعب، وتزوير الانتخابات، والقعود عن الإدلاء بالشهادة فى الانتخابات، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل..كل هذا منكر..وهكذا نجد دائرة المنكرات تتسع لتشمل كثيرا مما يعده الناس فى صُلب السياسة. ومما يجعل المسلم سياسيا دائما أنه مطالب بمقتضى إيمانه بألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعى، فهو مطالَب أيضا بمحاربة الظلم السياسى، وكل ظلم أيا كان اسمه ونوعه... والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه، كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَة لا تُصِيبَنَّ الْذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً». والسياسة ليس مكانها الاحزاب والبرلمانات فقط، بل إن محراب الصلاة بحر تمارس فيه السياسة، فمن يقرأ فى سورة المائدة الآيات التى تأمر بالحُكم بما أنزل الله، وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» يكون قد دخل فى السياسة، وربما اعتُبر من المعارضة المُتطرفة، لأنه بتلاوة هذه الآيات يُوجه الاتِّهام إلى النظام الحاكم، ويُحرض عليه، لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها. ويلفت القرضاوى إلى أن الساسة يدخلون الدِّين فى السياسة متى أرادوا!وقال (الذين زعموا أن الدِّين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة لا دين فى السياسة، ولا سياسة فى الدِّين، أول من كذَّبوها بأقوالهم وأفعالهم، فطالما لجأ هؤلاء إلى الدِّين ليتخذوا منه أداة فى خدمة سياستهم، والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء من المنسوبين إلى علم الدِّين، ليستصدروا منهم فتاوى ضدَّ من يُعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا). ويتذكر صدور فتاوى هو وعدد من الدعاة فى معتقل الطور سنة 1948م، 1949م بأنهم «يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا، فحقنا أن نُقتل أو نُصلب، أو تُقطَّع أيدينا وأرجلنا من خِلاف، أو ننفى من الأرض»!وتكرَّر هذا فى أكثر من عهد، تتكرَّر المسرحية وإن تغيرت الوجوه! ويضيف «مازلت أذكر ويذكر الناس كيف طلب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع إسرائيل، تأييدا لسياستهم، بعد أن أصدرت الفتوى من قبل بتحريم الصلح معها، واعتبار ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين! ويضيف: ولايزال الحكام يلجئون إلى علماء الدِّين، ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية، وآخرها محاولات تحليل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار، فيستجيب لهم البعض ويأبى عليهم العلماء الراسخون. إذن فلا يوجد إسلام سياسى وآخر أصولى وثالث فرنسى ورابع سنى.. فالإسلام كلٌ لا ينفصل.. والإسلام لا ينفصل عن السياسة.