بعد ضرب الربيع العربى لبعض حلفاء المملکة السعودية وعبور دول مجلس التعاون الموجة الأولي من الانتفاضات العربية بسلام، بدأت الرياض تحرکاتها الإقليمية لمرحلة ما بعد الثورات بحلة لم يعهدها المتابع للسياسات السعودية فى الکثير من جوانبها. وکان محور هذه التحرکات، الحد من تدهور ميزان القوي الإقليمى لصالح اللاعبين الإقليميين الجدد کالإخوان المسلمين والمنافسين القدامي کإيران. وکانت أدوات اللعب السعودى أمام إيران جديدة للغاية. فلأول مرة استعانت السعودية بخطابٍ طائفى لمحاصرة إيران وضرب حلفائها. وأصبح التأکيد علي طائفية سياسات إيران الإقليمية أداة لتخوين حلفائها العرب. کما جري الترکيز علي علاقات إيران بشيعة المنطقة وتقلص الحديث عن دعم إيران لحماس ودأبها لبناء علاقات متينة مع الإخوان المسلمين ودعمها لأکراد العراق أمام تقدم داعش لتناقضها مع الخطاب المؤکد علي طائفية سياسات إيران. وبذلك غلفت السعودية أهدافها الاستراتيجية بخطاب بدأ يأتى بتغييرات استراتيجية بعيدة المدي. وقد ساعد اختلاف رؤي الإخوان وإيران حول سوريا إلي ولوج شىء من الخطاب الطائفى فى إعلام الإخوان السياسى ما أدي لتباعد إيرانى – إخوانى. وکان ذلك يصب فى مصلحة السعودية الباحثة عن تعميق الهوة بين إيران والإخوان. ولکن الخطاب الطائفى أتي بنتائج جانبية بدأت تطفو علي سطح التطورات الإقليمية. ويمکن اعتبار استفادة الحرکات المتطرفة المنخرطة فى الحرب الداخلية السورية من موجة المتطوعين للقتال والمثارة بالخطاب الطائفى أول النتائج الجانبية. وتصاعدت أعداد المتطوعين للقتال فى صفوف التنظيمات المتطرفة لأرقام غير مسبوقة لم تتراجع عن الألف حتي بعد بدء عمليات التحالف الدولى. کما ازداد قبول المجتمعات المسلمة لخطاب هذه التنظيمات المتطرفة وتزايدت علي إثره المساعدات المالية واللوجيستية المقدمة لها. *** أدي صعود داعش واجتياحه لأراضى العراق إلي تذبذب فى سياسة الرياض الإقليمية. فقد أتت «طيفنة» الصراع علي السعودية بتهديدات جمة. ومع اقتراب أشهر الملك عبدالله الأخيرة ازداد الغموض فى الرياض. فلم يؤد ظهور داعش إلي انحسار الخطاب الطائفى للسعودية علي الرغم من إضعافه لمحور سعود الفيصل – بندر بن سلطان بعد إبعاد الأخير عن ملف سوريا. کما تضاءل تأکيد الرياض علي طائفية حکومة بغداد بعد اختيار حيدر العبادى لرئاسة الوزراء. ودخلت الرياض طرفا فى التحالف الدولى ضد داعش. بالرغم من هذه التطورات، يصعب القول بتغيير الاستراتيجية الإقليمية للسعودية کما يصعب الإتيان بنقطة فاصلة لمثل هذا التغيير. فقد استمر التجييش الإعلامى ضد إيران وحلفائها فى سوريا ولبنان واليمن. لهذا يمکن القول بازدياد الغموض فى الأشهر الأخيرة لحکم الملك عبدالله کسمة رئيسية لسياسة المملکة الإقليمية. وکان الغموض هذا يزعج الکثيرين فى الداخل السعودى. فقد کان ولى العهد وحاشيته، المتخصصين فى الشئون الأمنية والعسکرية، يبحثون عن فرص لإعادة رسم وتأطير السياسة الإقليمية للسعودية وفقا لأولويات مختلفة والتخلص من الأعباء التى حدت من إمکانيات التحرك السعودى. وبمجىء الملك سلمان والتغييرات السريعة فى الداخل السعودى، بدأ إعادة ترتيب أولويات السياسة الإقليمية للمملکة يدخل حيز التنفيذ. وقد أظهرت سرعة التغييرات الداخلية (بإصدار الملك سلمان 34 مرسوما ملکيا فى الأسبوع الأول من حکمه) أن التغيير سيطال السياسة الخارجية. ولارتباط السياسة الداخلية بالخارجية، فقد رشحت أول التغييرات للسياسة الخارجية فى الداخل عبر إعادة شىء من الحرية للوجوه المعروفة بقربها من الإخوان کسعود الشريم وسلمان العودة. ويُعد إتاحة الفرصة لزيارة راشد الغنوشى السعودية ودعوة خالد مشعل لزيارة المملکة، أول الغيث الذى بدأ هطوله بزيارة أردوغان للرياض. فقد کانت رياض الملك عبدالله وضعت إلي جانب إيران وحلفائها، حرکة الإخوان وأخواتها کأحد أهم التهديدات الأمنية للسعودية وحلفائها. وکان لهذا التوجه ما يبرره. فقد سعت حرکة الإخوان إلي بناء تحالف إقليمى لا يندرج ضمن التحالفات السابقة ويُضعف بالضرورة محور الاعتدال العربى. وکان قد أخرج مصر وتونس والمغرب من المحور المذکور وکان متوقعا أن يُخرج الأردن وغيرها منه. رغم ذلك، ظل الالتباس سائدا. فلم يکن بمقدور المتتبع للسياسة الخارجية السعودية أن يحدد بدقة أيا من إيران أو الإخوان کتهديد أولى فى الذهنية الاستراتيجية السعودية. بصعود الملك سلمان بدأ التقارب السعودى إلي الإخوان وبدا واضحا أن الغموض فى تحديد الأولويات قد انتهي إلي حين. إذ أصبحت إيران تمثل الخطر الأول فى المخيلة السعودية وبذلك تجب مواجهتها بکافة الوسائل حتي لو اقتضي ذلك التقارب من تهديد داخلي وإقليمى کالإخوان فى المدي القصير. لا تنبع إعادة رسم الأولويات السعودية من المتغيرات الإقليمية فقط إذ للانعطافة الغربية تجاه إيران وخطابها الجديد الذى طرحه روحانى أثرا واضحا فى التطور الحادث فى الرياض. من هذا المنظور يمکن القول بأن المتغير الإيرانى يلعب دورا محوريا فى تحول السياسة الخارجية السعودية علي المستويين الإقليمى والدولى. *** ويشير التقارب السعودى من ترکيا إلي إرجاء الخطر الإخوانى للتعاطى مع التهديد الذى تراه السعودية فى إيران. أما مصر السيسى فلا تجد بدا من الصمت أو التذمر خلف الستار من التوجه الجديد للرياض. فأولويات مصر اليوم لا تتماشي مع أولويات السعودية. فالإخوان من وجهة نظر السيسى هم التهديد الأهم وأن إيران وحلفاءها لا يأتون إلا بعد الخطر الإخوانى. إلا أن مصر السيسى لا تملك أدوات الضغط علي السعودية. فقد تماشت السعودية مع خيارات السيسى الداخلية والإقليمية لسنة ونصف. وأصبح اليوم علي مصر السيسى أن تماشى أولويات الرياض الإقليمية فى الداخل المصرى وخارجها. ويبقي الميل تجاه طهران خيارا مصريا يؤرق حکام الرياض ويدفعهم لطمأنة القاهرة باستمرار الدعم الاقتصادى والذى ظهر جليا فى مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصرى. إذ رغم انحدار مستوي تمثيل السعودية، صاحبة فکرة المؤتمر، أبدت الالتزامات التى قطعتها السعودية لدعم مصر خوفا من أى تحرك مصرى للتقارب مع طهران. أما ترکيا فقد خسرت فى السنوات الأخيرة الکثير من نفوذها الشرق أوسطى. فقد وضعت ترکيا کل بيضها الشرق أوسطى فى سلة الرهان علي سقوط الأسد. کما وقفت إزاء إسقاط الرئيس مرسى موقفا أفقدها الکثير فى التعامل مع الدول العربية المجابهة لإيران وحلفائها. فلا هى استفادت من موقفها القريب من السعودية تجاه الأزمة السورية ولا استطاعت العبور من سقوط الرئيس مرسى للتعاطى مع السعودية فى ملفات کاليمن وقطاع غزة. من هذا المنظور يُعتبر الانفتاح السعودى عليها فرصة ستحاول أنقرة استثمارها فى سوريا. ويمکن توقع تغاضى ترکيا عن مواجهة نظام الرئيس السيسى لأهداف قد تعتبرها قريبة المنال. ولکن ترکيا المهزومة فى کافة الملفات الإقليمية تقريبا تدرك جيدا أن الوضع فى العراقوسوريا قد يتطور ليوجه أخطارا لوحدتها الأرضية. من هذا المنظور لا يُمکن لترکيا الولوج عميقا فى مواجهات الرياض الإقليمية. فقد بات منظر «تصفير المشاکل» مع الجوار رئيسا لوزراء أنقرة وقد جرَبَ تأطير المشاکل بدل تصفيرها فى السنوات الأخيرة وشهد ما خسرته ترکيا نتيجة لهذه السياسة. لذلك من المستبعد أن تناصر ترکيا السعودية إلا فى سوريا. *** ومن الواضح أن تمحور السياسة السعودية حول إيران سيقود عقلية رياض الشرق أوسطية إلي حين. وما حرب «عاصفة الحزم» علي اليمن إلا البداية. وتبحث حکومة إيران الواقعة فى محور السياسة السعودية عن طرق لتبديد المخاوف السعودية والعربية حول اتفاقها المحتمل مع مجموعة 1+5 وقد أکدت فى هذا السياق علي لسان قيادتها أنها لا تريد ربط أى اتفاق مع الدول الغربية بالملفات الإقليمية. إلا أن هذه الأطروحات لا تطمئن السعوديين. فالرياض التى اختارت محاصرة إيران وحلفائها بخطاب طائفى تجدُ اليوم فى إشراك الإخوان فى معسکرها الإقليمى ضالتها لتقزيم دور إيران الإقليمى. محور المشکلة فى تحالفات السعودية الجديدة يکمن فى نظرة الطرفين (الإخوان والسعودية) لبعضهم من منظور مقولة «الغاية تبرر الوسيلة». ومن شأن أى تغيير جدى فى الأزمة السورية أو فى علاقة إيران بالدول الغربية أن يعمق الفجوة السياسية بين الطرفين ويُقحمهما مجددا فى صراع أيديولوجي. ومن الواضح أيضا أن المعسکر السعودى أمام إيران لا يُمکن أن يتزعمه غير الرياض. فلا يمکن للسعودية التى تواجه قوة إيران الإقليمية القبول بقوة إقليمية أخري تشاطرها النفوذ بين الدول العربية. فلا يُمکن للسعودية کبح جماح التطلعات الترکية للعب دور إقليمى أکبر أو إبعاد القاهرة المتعطشة للعب دور إقليمى فى المديين المتوسط والبعيد. کما أن أولويات دول عربية کقطر والإمارات مبنية علي مشاريع إقليمية تتلاقي حينا مع سياسات الرياض وتتقاطع معها أحيان أخري. تعلم السعودية أن الحائط الذى تحاول بناءه حول إيران فى الشرق الأوسط ليس إلا شبكا ممزقا لا يصلح لما ترنو له. من هذا المنظور تبدو مهمة الملك سلمان أمام إيران شبه مستحيلة. ولکن الواضح أن أجواء الرياض المشحونة بالعداء لطهران والخوف منها تحجب عن استراتيجيى السعودية النتائج المحتملة للتشبث بالخطاب الهوياتى. وتُبدى تجربة الخيارات الاستراتيجية السعودية فى أفغانستانفالعراقفسوريا والتهديدات الناتجة عنها کالقاعدة فالدولة الإسلامية فى العراق فداعش وجبهة النصرة وأخواتها قصر نظر استراتيجى. هکذا يقلب الخيار الاستراتيجى الخاطئ الأهداف المرسومة لسياسة ما إلي نتائج عکسية.