هذه صدفة خير من أى ميعاد. إذ فى اليوم الذى نشر لى فيه تعليقى على ظاهرة التدخل الرسمى فى نتائج الامتحانات لرفع نسبة الناجحين، أعلنت نتائج استطلاع الرأى الذى أجراه الحزب الوطنى فى مصر. ولم تخيب النتائج الظن والرجاء. وإنما جاءت مؤكدة على أن الحزب أمتن مما نتصور وأن الإعلام المصرى «زى الفل»، وأن أغلب المتفائلين بمستقبل البلد امسكوا الخشب هم من الفقراء والمطحونين والأميين (!). ليس فيما ذكرته شىء من الهزل والمبالغة. لأن بعض صحف الأربعاء 29/7 نشرت هذه المعلومات على صفحاتها الأولى باعتبارها خبرا مهما، هلل له حملة المباخر قائلين ما معناه هكذا تكون الاستطلاعات وإلا فلا. أما الصحف «المستقلة» فلم ألحظ أنها أوردته ضمن رسومها الكاريكاتورية أو فى باب العجائب والطرائف، ولا حتى تحت عنوان «صدق أو لا تصدق». وإنما قالت الصحف بكل جدية إن المجلس الأعلى للسياسات بالحزب الوطنى عقد اجتماعا برئاسة جمال مبارك. وفيه تمت مناقشة نتائج استطلاع الرأى الذى أجراه الحزب وتناول أداء الحكومة والشأن السياسى العام. ومن النتائج التى أثارت الانتباه فى الكلام المنشور أنه فى الإجابة على سؤال تعلق بثقة المواطنين فى الأحزاب كانت النتيجة كالتالى: الحزب الوطنى احتل المرتبة الأولى ووصلت نسبة الواثقين فيه إلى حوالى 58٪. أما حزب الوفد فإن حظه من الثقة لم يتجاوز 4٪، وحزب التجمع «فاز» بنسبة 3٪. أما المستقلون (الذين يدخل فيهم الإخوان) فلم تزد نسبة الثقة فيهم على 2٪. من النتائج التى لفتت الانتباه أيضا فى ذلك الاستطلاع أن نسبة عالية من المتفائلين بمستقبل البلد (64٪) ينتمون إلى طبقة الفقراء والأميين فى مصر. هذه النتائج تثير على الفور السؤال التالى: إذا كان الحزب الوطنى بهذه القوة والمتانة فى الشارع المصرى، فلماذا يستعين بالأمن وبجهاز الإدارة للتزوير وترهيب المنافسين فى الانتخابات النيابية والمحلية، وإذا كانت تقارير اللجنة العليا للانتخابات، والدراسات التى أصدرها المتخصصون فى مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام قد أكدت أن نسبة التصويت للحزب الوطنى فى انتخابات مجلس الشعب لسنة ألفين كانت 38٪، وإن هذه النسبة تراجعت فى انتخابات عام 2005 بحيث لم يتجاوز 32.5٪، فكيف يقال فى 2009 إن نسبة الثقة فى الحزب فى حدود 58٪؟ عندى تفسير من واقع الخبرة العملية التى أكدتها معلومات مقالتى التى تصادف نشرها فى نفس اليوم. خلاصة ذلك التفسير أن النسبة كانت كما هى عليها فى الانتخابات الأخيرة، ولكن الذى حدث أن القائمين على أمر الاستطلاع رفعوها إلى 58٪. ذلك أنه إذا كان من أهل السلطة من تجرأ ورفع نسبة النجاح فى الثانوية العامة، وإذا كان أحد العمداء لم يتردد فى رفع نسبة نجاح طلاب الهندسة من 60 إلى 80٪، فما الذى يمنع من رفع نسبة الثقة فى الحزب الوطنى من 32 إلى 58٪؟ وألا يعد ذلك إعمالا للعرف السائد والتزاما بالتقاليد المرعية فى الشأن العام؟ ربما اعتبر الذين حددوا تلك النسبة أنهم تواضعوا وجعلوها 58٪ فقط. رغم أن البلد كله مرهون للحزب ومكتوب باسمه. ولكن ذلك التفاوت الهائل بين حظ الحزب وحظوظ الأحزاب الأخرى يدين النظام القائم ولا يحسب له. لأن من حق أى باحث أن يتساءل قائلا: أية ديمقراطية هذه التى جعلت من الحزب الحاكم فِيَلاً بعد 30 سنة من ممارسة التعددية السياسية فى حين أن الأحزاب الأخرى لا يتجاوز حضورها حجم النمل أو الصراصير؟ وألا يذكرنا ذلك بالحياة الحزبية المغشوشة فى الدول الشيوعية؟ بقية النتائج المعلنة أثبتت أن خبراتنا فى تزوير استطلاعات الرأى أضعف منها فى تزوير نتائج الانتخابات، بما يجعلنا نشك فى أن الاستطلاع تم تحت إشراف مباحث أمن الدولة ولم يقم به خبراء قياس الرأى العام. وإلا كيف يقال إن قناتى التليفزيون الأولى والثانية هما الأعلى مشاهدة؟ وهل يعقل أن يقال إن أغلب الفقراء هم المتفائلون بالمستقبل؟ وكيف يقال إن 40٪ فقط لم يسمعوا بالأزمة الاقتصادية العالمية، فى حين أن 80٪ تطحنهم الأزمة ولم يعرفوا غيرها طيلة حياتهم. إن أخطر ما فى الاستطلاع الذى تم، أن نتائجه دلت على أن الحزب مُصّر على ألا يعرف شيئا عن الواقع المصرى، الأمر الذى يرشحه بجدارة لأن يكون شهادة تفوق فى الاستعباط السياسى.