رسالة ثانية أرسلها الشاعر عمر حاذق من داخل محبسه، سجن برج العرب لأصدقائه يصف فيها تلك المرة معاناة محبسه بنبرة ساخرة ضاحكة يملؤها التفاؤل. "أن تكتب رواية بجوار برميل زبالة لا يغسله أحد" أصدقائي القليلون... نهاركم محبة بلغني بالأمس أن عدداً منكم قرأ رسالتي السابقة، وكتب لي رسائل، أنا في شوق إليها، ستصلني في أول زيارة لي، لأنني الآن في سجن برج العرب، فقد تم ترحيلي مع المحكومين بعد رفض الاستئناف من سجن الحضرة. الآن سيتغير زينا في السجن من الأبيض إلى الكحلي، هكذا بكل فخر سأترك زي الزمالك إلى زي برشلونة، لكن بدون خطوط حمراء، وش بيضحك، سترتفع أسعار رواياتي إذن، فاستعدوا ! فى هذه "الحبسة" بلغة المساجين، لدى بعض سوء الحظ الغريب، والحمد لله على كل حال، تم توزيعي في زنزانة صغيرة ومكتظة جدا بسجن الحضرة. هناك ازدحام غير مسبوق بسبب كثرة المعتقلين. المكان الوحيد الذى أتيح لى في تلك الزنزانة كان بجوار الباب، على بُعد متر واحد من برميل الزبالة الذى لم يغسله أحد منذ سنوات فيما يبدو، ولم يكن يتم وضع أكياس فيه. كان الأمر رهيباً. رائحة فظيعة وتشكيلة صراصير عجيبة لا يزيدها البرد إلا قوةً وإصراراً. من الدروس المفيدة في السجن أن المصريين لا يعجزون عن حل أية مشكلة، مهما كانت. بدأ بعض رفاق الزنزانة الطيبين يساعدونني بأفكار كثيرة، فوجدنا وسيلة لغسل البرميل مقابل أجر، ثم نظمنا إحضار أكياس زبالة كبيرة لوضعها داخل البرميل ثم ربطها بالليل، وقمنا بحملات تنظيف قوية منتظمة. لسوء الحظ يتم إطفاء النور كاملا في الزنازين الصغيرة، أما الكبيرة فتُترك بعض الإضاءة في آخر الزنزانة لمن يرغب في القراءة أو الكتابة. وفى الصغيرة لا فرصة أبداً لأية خلوة أو عزلة، وهذا أسوأ ما في الأمر. كل الكلام الذى أسمعه أرفضه تماماً ولا فائدة من الجدل، ولا زاوية بعيدة هادئة. بعد شهر من حبسي شعرت أنني إن لم أجد عزلة للكتابة سأموت. بدأت أسد أذني بقطع مناديل وسدادات لأن جميع أنواع الموبايل والراديو والإم بي ثرى ممنوعة هنا، وتلك كارثة أخرى لأنني لا أكتب إلا وأنا أسمع أغاني. كنتُ قبل اعتقالي أراجع رواية قصيرة كتبتُها كتابة أولى، ولا يمكن إدخالها لأن الكلمة المكتوبة في سجن الحضرة مشكلة كبيرة وخطيرة. فجأة تذكرت أننى كنتُ قد دونتُ ملحوظة من قبل لفكرة رواية عن رجل عجوز يعانى من الزهايمر أو أمراض الذاكرة، فبدأت أفكر وأسجل بعض الأفكار، ثم أصبحتُ أكتب كل يوم ليلاُ بعد أن ينام الزملاء. يتم إطفاء النور الساعة 11 مساءً فأستعير كرسياً من الصديق الدكتور محمد هنداوى وأجلس بين الأجساد النائمة في المساحة الضئيلة القريبة من الشباك العالى الذى يسرب شعاعاً صغيراً من الممر الخارجى، وكان فيه لمبتان نيون، ثم تعطلتْ إحداهما فأصبحت عاجزاً تماماً عن الرؤية. ساعدني الصديق شريف فرج مساعدة رائعة، فصمم لى شمعة فتيلها قشر البرتقال وأعواد الكبريت، وزيتُها من زيت الطعام البشع الذى يقدمه السجن، ووعاؤها هو الجزء السفلى من زجاجة مياه معدنية. ظل يخترع ويجرب نماذج مختلفة حتى نجحت التجربة، ثم خاف بعض الزملاء من اشتعال النار في البطاطين الكثيرة، وكان الدكتور هنداوي يبذل جهوداً متواصلة لتركيب لمبة في الزنزانة، حتى وافق السجن بعد مفاوضات مضنية وتم تركيب اللمبة يوم 20 / 2 فسهرتُ أكتب (فى العادة من 11 -3 أو 4 فجراً) منتشياً، وفى الثامنة من صباح 21 / 2 نادوا على اسمى: "جهز حاجتك، ترحيل على بر ج العرب". هنا أواصل الكتابة ليلاُ على لمبة الحمام، فالازدحام أشد من الحضرة وأنا في الزنزانة الوحيدة المخصصة للمحكومين في العنبر، أحاول التأقلم مع الحياة بلا موسيقى، وأتمتع كل ليلة بعد أن ينام الناس الطيبون وأخلو أنا مع الكراسة الرديئة والقلم والشيطان! أنجزتُ ثلاثة أرباع الرواية بالتقريب في كتابة أولى منذ بدأت أول فتقرة ليلة 1 / 1 / 2014. مَنْ كان يتخيل أنني قادر على الكتابة في جوار هذه الصراصير كلها؟ وش بيضحك أنا سعيد يا أصدقاء.