لغة السينما، بمنجزاتها، تتوافر بسخاء فى «ألف ليلة وليلة»، ذلك النص الذى لم يفقد حداثته، فيه الحكاية من داخل الحكاية، الفلاش باكات، المشاهد التخيلية، الأحلام والكوابيس، الانتقالات عبر الأزمنة وبين الأمكنة، جرأة تجسيد العلاقات، تحورات الكائنات، فجائية الأحداث، الاستخدام المدهش للمؤثرات الصوتية.. وهذا من باب الأمثلة وليس الحصر، والسبب فى ذكرها يرجع لعنوان الفيلم الذى يربط بين بطلة العمل السينمائى هبة يونس بأداء منى زكى وشهرزاد، فإذا كانت الأخيرة مهددة بالموت إذا توقفت عن سرد حكاياتها، فإن هبة يونس تؤمن أن حياتها ستنتهى إن لم تواصل حكاياتها، خلال برنامجها التليفزيونى الذى تقدم فيه امرأة تروى تجربتها أمام جمهور صغير، داخل الاستوديو. شهرزاد مجبرة على ما تقوم به، بينما هبة يونس تعشق مهنتها، ولكن كلتيهما تؤكدان قوة المرأة وعزيمتها وقدرتها على الصمود والبقاء على قيد الحياة، برغم تهديدات شهريار، فلكل امرأة شهريارها. على طريقة «ألف ليلة وليلة» قسّم وحيد حامد فيلمه إلى خمس حكايات، لكل حكاية طابعها وأجواؤها وأبطالها واستغلالها، لا يربطها مع بقية الحكايات سوى التركيز على الغبن المفروض على المرأة، فضلا عن شخصية المذيعة وبرنامجها المستوحى فى عنوانه من الليالى «نهاية المساء وبداية الصباح». وتعمّد كاتب السيناريو سرد الحكايات على الطريقة المألوفة حيث البداية والوسط والنهاية، مستبعدا فى هذا نفحة الحداثة التى تحفل بها «ألف ليلة وليلة» ومحجما انطلاقات المخرج يسرى نصر الله الأميل للتحقيق فوق الواقع كما يراه على نحو أشمل. تتباين مستويات الحكايات، فكريا وفنيا، فالحكاية الأولى تأتى مبتسرة، ترمى إلى تأكيد أن تقاليد المجتمع الشكلية بمثابة «شهريار» المرأة، لابد أن تذعن لإرادته، حتى لو كان ضد رغباتها، فبطلة الحكاية، الجميلة الأنيقة، اسمها فى الفيلم «سلمى حايك»، تعمل بائعة فى محل روائح بالغ الفخامة، تتعرف عليها المشترية «هبة يونس»، تذهب معها إلى حيث تسكن فى إحدى مناطق القاع، ولا نرى هناك سوى دخان وقمامة، وأثناء الرحلة، تركبان عربة «الحريم» فى المترو. كل النساء محجبات، يحدجن المذيعة بنظرات استهجان نارية، مما يضطر «هبة يونس» الشجاعة إلى وضع «إيشارب» حول شعرها، وتعلق «سلمى حايك» التى تتحجب عادة، عقب خروجها من المحل، قائلة إنها تعيش منقسمة على نفسها، فشخصيتها المزدهرة فى العمل لا علاقة لها بشخصيتها المنسحقة فى المجتمع. الحكاية هنا أقرب إلى العنوان، تصر أن تبقى مجرد فكرة، تكاد تخلو من الحياة، لذا قد ينساها المشاهد مع توالى الحكايات الأكثر ديمومة وسخونة. الحكاية الثانية تقدم «أمانى»، بأداء موفق كالعادة من سوسن بدر، نزيلة إحدى المصحات النفسية للمسنين، رفضت الامتثال لأوامر ونواهى «شهريارها»: المجتمع والرجل، فالمجتمع يحتم عليها أن تكون زوجة، وحين تبدأ خطوتها نحو الدخول فى مؤسسة الزواج، تلتقى الرجل المرشح لها، وفى واحد من المواقف المتميزة فى الفيلم، داخل أحد المطاعم. بين سوسن بدر وحسين الإمام، يتصاعد الصراع بينهما، حوارا، ينسجه وحيد حامد بمهارة، ويضبطه يسرى نصر الله بكفاءة، يملى فيه الرجل بشروطه التى قد تبدو منطقية، ولكننا نكتشف مع «أمانى» أنها أنانية وشديدة الإجحاف، وحين تحتج «أمانى» وتغادر، ندرك نحن، فى لحظة تنوير، أن شهريار أو عنصرا من عناصره، يعيش فى عقولنا من دون أن تنتبه. على العكس من الطابع الفكرى الذى تتسم به الحكايتان الأولى والثانية، تأتى الحكاية الثالثة مفعمة بالحياة والحيوية، ثلاث بنات وشاب فى ظروف وعرة، تضيق بهم الظروف، من كبت إلى طمع آخر إلى جهل وقلة حيلة، فتكون النتيجة: علاقات محرمة وجريحة، وربما هذه العلاقات ما دفعت البعض إلى الربط بين الحكاية وقصة «بيت من لحم» ليوسف إدريس. ولكن أحسب أن المسألة هنا لها خصوصيتها، وإلا من الممكن الربط بينها ومسرحية «جزيرة الماعز» لأوجوبيتى التى أعدها وحيد حامد لتصبح «رغبة متوحشة» من إخراج خيرى بشارة، بل من المحتمل أن يربطها أحد بحكاية «الحمال والبنات» الواردة فى «ألف ليلة وليلة». هنا، فى «احكى ياشهرزاد» عالم قائم بذاته، له حضوره العميق، بديكور شقة البنات بأثاثها الفقير، ودكان البويات المزدحم بالبضاعة، بالزاوية الضيقة. السرية، الخانقة، التى تنطلق فيها غرائز الشقيقات الثلاث، وتشهد مصرعه قتيلا بضربات «جاروف» غادرة، تنهال عليه من «صفاء»، الأخت الكبرى، حينما تعرف أنه تلاعب بها وبأختها، ويحكم عليها بالسجن خمسة عشر عاما، وها هى تحكى حكايتها فى «نهاية المساء وبداية الصباح». الاختيار الموفق للممثلين، سواء للعنصر النسائى: الكبرى «رحاب الجمل»، الوسطى «نسرين أمين». الصغرى «ناهد السباعى»، أو العنصر الرجالى مختزلا فى صاحب الوجه الجديد، القادم من أحراش الحياة «محمد رمضان»، بالإضافة لنجاح يسرى نصر الله فى إطلاق مواهبهم، منح هذا الجزء من الفيلم قوة إقناع قد لا يتوافر فى بقية الأجزاء. فى أجواء مختلفة عما سبق، تدور أحداث الحكاية الرابعة: طبيبة الأسنان ناهد بأداء الممثلة المغربية التى تعد مكسبا للسينما المصرية تقع فى حبائل مغامر نصاب، يلعب بالنساء وبالسياسة، يكتب كتابه على الطبيبة، ينفرد بها قبل «الدخلة الرسمية»، وبعد أن تحمل منه يعلن لها أنه ليس والد الجنين لأنه لا ينجب، ويطالبها بثلاثة ملايين جنيه كى لا يفضحها، وتقرر التخلص من الجنين ليس خوفا من الفضيحة ولكن لأنها لا تريد طفلا من هذا الأفاق الذى أصبح وزيرا. وبرغم لمسات محمود حميدة الموفقة، بنظرة عينيه العابرة التى تفيض غدرا، وتراقصه منتشيا عقب قهر الطبيبة معنويا، وبرغم حوار وحيد حامد الذكى، إلا أن الحكاية أصلا مليئة بالثغرات، عصية على التصديق، فالرجل مشهور، يظهر على الشاشة الصغيرة كثيرا. فكيف لا تعرف الطبيبة، كما يعرف الجميع، أنه ينقض على الثريات كى يستولى على مالهن، وكيف لم تصل لها معلومة أنه متزوج ويعول، وهل يحتاج متسلق سياسى ناجح مثله، وهو على أعتاب الوزارة، لمال النساء.. إنه شهريار مزيف. أما الحكاية الخامسة، فإنها تتعلق ببطلة الفيلم، هبة يونس، الحاضرة على نحو ما فى جميع الحكايات، وقصتها تتبلور خلال متابعتها لمختاراتها من النساء، وهى متزوجة من صحفى أنيق وجميل ووصولى، يؤدى دوره «حسن الرداد»، تحبه، لكن شيئا ما يجعلها غير مطمئنة، ويظهر هذا القلق فى الحلم المزعج الذى يجسده، بكثافته الكابوسية، يسرى نصر الله، حيث تجد نفسها فى بيت بلا نوافذ أو أبواب، مفتوح على عواصف ومخاوف،ولاحقا ندرك أن هواجسها، التى لا تريد الاعتراف بها، فى محلها، فزوجها الطامح فى كرسى رئيس التحرير يتلقف وعد المسئول الكبير بالكرسى، بشرط تخفيف لهجة زوجته فى برنامجها، فلا يتوانى عن إعلان استعداده لطلاقها. وبهذه الجملة يتبدى بجلاء مدى خسة ذلك «الشهريار» ووضاعته، يضاف لهما نزعة الغدر حين يحملها مسئولية عدم حصوله على المنصب، بل يتطاول عليها، فى النهايات، ولأن لها كرامتها فإنها تدافع عن نفسها، يتصارعان بعنف، وتجد فى نفسها شجاعة سرد حكايتها، أمام الكاميرا، بوجهها المتورم، وهالة اللون الأزرق حول عينيها. «احكى يا شهرزاد» فكريا، يقف إلى جانب المرأة، الضحية غالبا، ضد الرجل، الجلاد عموما. وفاته الفيلم الإجابة عن السؤال الثانى: والرجل الجلاد ضحية من؟.. رؤية الفيلم، أحادية الجانب، ومن الناحية، ينهض بناؤه على أبسط وأسهل الأشكال، وحدات متوالية، منفصلة، تعتمد على سرد تقليدى، لا يقترب حتى من روح الحداثة المتوافرة فى «ألف ليلة وليلة».