في شوارع القاهرة، ليست الديمقراطية الوليدة فقط هي ما ترقد محطمة. فسياسة الولاياتالمتحدة كذلك ترقد ممزقة - في أعين كثيرين - أو على الأقل سمعة واشنطن ومصداقيتها. منذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في 2011، واجهت الولاياتالمتحدة صعوبة في الحفاظ على توازن بين دعم التقدم الضئيل باتجاه الديمقراطية وحماية مصالح أمنها القومي. وحاول البيت الأبيض بجد أن يعمل مع أي كان في موقع السلطة في مصر لكن انتهى به المطاف بدون أصدقاء وبنفوذ محدود في القاهرة. ففي الآونة الأخيرة، فشلت جهود واشنطن الدبلوماسية واحدة تلو الأخرى. وحتى تمت إطاحة الرئيس محمد مرسي، حاولت الولاياتالمتحدة نصحه بالقبول بتسوية مع الجيش والمحتجين. كما طلبت الولاياتالمتحدة من الجيش ألا يطيح بمرسي. وبعد الإطاحة، سافر وليام برنز، نائب وزير الخارجية الأمريكي، إلى القاهرة مرتين للمساعدة في الوساطة بين الجيش وجماعة الإخوان المسلمين. لكن حتى العثور على من ينصت في القاهرة هذه الأيام مهمة صعبة للمسؤولين الأمريكيين. وامتنعت الولاياتالمتحدة عن وصف إطاحة مرسي بالانقلاب خوفا من إثارة استياء القادة العسكريين في البلاد والملايين الذين طالبوا برحيل مرسي. وأثار هذا غضب جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها الذين يشعرون أن الانتخابات الديمقراطية سرقت منهم. لكن بعيدا عن استرضاء الولاياتالمتحدة للحكام الجدد المؤقتين والقادة العسكريين، تجد واشنطن نفسها موضع انتقاد من المعسكر المناوئ لمرسي لما يرونه دعما أمريكيا غير مشروط لمرسي حين كان في السلطة. وعندما قطع الرئيس الأمريكي باراك اوباما عطلته، أدان العنف "بشدة"، وقال إن الولاياتالمتحدة تعارض فرض حالة الطوارئ في مصر. وقد بدا اوباما مكتئبا وعابسا وبشكل عام محبطا بالرغم من أنه كان يتحدث من موقع غير ملاءم للحدث بمنتجع لقضاء العطلات الصيفية. وقال اوباما "امريكا لا يمكنها تقرير مستقبل مصر. هذه مهمة الشعب المصري. نحن لا نأخذ صف أي حزب بعينه أو شخصية سياسية بعينها." ويرى البعض أن الحقيقة المجردة باستمرار الدعم العسكري الأمريكي لمصر يعني أن الولاياتالمتحدة انحازت للجيش. لكن وزير الدفاع المصري، الفريق عبد الفتاح السيسي، يوجه انتقادات علنية لاذعة للولايات المتحدة. وفي الآونة الأخيرة، قال السيسي في مقابلة مع صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية "لقد تخليتم عن المصريين. لقد أدرتم ظهوركم للمصريين، وهم لن ينسوا هذا. والآن هل تريدون أن تستمروا في إيلاء ظهوركم للمصريين؟" وقال الرئيس الأمريكي إن من السهل إلقاء اللوم على الولاياتالمتحدة أو الغرب على ما يحدث في مصر. "ألقي علينا اللوم من أنصار مرسي. ألقي علينا اللوم من الجانب الآخر وكأننا أنصار مرسي. مثل هذا الأسلوب لن يقدم شيئا لمساعدة المصريين في نيل المستقبل الذي يستحقونه. نريد أن تنجح مصر. نريد أن تكون مصر سالمة وديمقراطية ومزدهرة. هذا هو ما يهمنا. لكن لتحقيق هذا، على المصريين أن يقوموا بالعمل." وألغى اوباما مناورات عسكرية مشتركة مع مصر وقال إن الدعم الأمريكي سيخضع للمراجعة. وفي عام 2011، ألغت الولاياتالمتحدة كذلك مناورات النجم الساطع العسكرية - التي تجرى كل عامين - بسبب الاضطرابات التي أعقبت الثورة، وللضغط على الحكام العسكريين المؤقتين للبلاد آنذاك كي يلتزموا بخطة التحول الديمقراطي. لكن اليوم، لم يعد القادة العسكريون ينصتون. لم يعودوا كذلك منذ بدا أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يؤيد تحركهم بإطاحة مرسي. فقد قال كيري لتلفزيون غيو الباكستاني منذ أسبوعين "لقد طلب من الجيش التدخل، من قبل الملايين والملايين من الناس، والذين كانوا كلهم يخشون سقوط البلاد في الفوضى والعنف." وأضاف كيري "وفي أفضل تقدير لنا حتى الآن، الجيش لم يستولي على السلطة. هناك حكومة مدنية لإدارة البلاد. في الواقع، لقد كانوا يسترجعون الديمقراطية." وحتى الآن، ظلت السياسة الأمريكية ملتفة، حيث لم تصف ما حدث بأنه انقلاب كما لم تقل إنه ليس انقلابا. ولعدة أيام بعد تصريحات كيري، تراجع المسؤولون الأمريكيون بحدة عن مواقفهم، لكن لم يعد من الممكن إلغاء التصريح. غير أن تعليقات كيري كانت بدورها انعكاسا لسنوات من التعاون الوثيق بين واشنطنوالقاهرة. وبالرغم من الاضطرابات كلها، تبقى مصر وجيشها شريكا أمنيا رئيسيا. فدعم القادة العسكريين مصيري للحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل التي تم توقيعها في عام 1979. كما تدعم واشنطن مصر في حربها مع المسلحين في شبه جزيرة سيناء الواقعة على الحدود مع إسرائيل. ويعتري واشنطن القلق أيضا بشأن النفاذ إلى قناة السويس. وكان تقرير حديث صادر عن خدمة أبحاث الكونغرس قد سلط الضوء على مخاوف داخل الإدارة الأمريكية والكونغرس بشأن كيفية الحفاظ على التعاون الأمني مع مصر في ظل استمرار الاضطرابات. وصدر التقرير قبل عزل مرسي لكن المخاوف تظل كما هي في غيابه. وتمنح مصر تسهيلات للبحرية الأمريكية للمرور عبر قناة السويس فيما تضطر دول أخرى للانتظار أسابيع. وتمر نحو عشر سفن حربية أمريكية شهريا عبر القناة التي تعد بمثابة طريق مختصرة للوصول إلى العراق وأفغانستان. وجاء في التقرير "بدون المرور عبر القناة ستضطر البحرية لنشر سفن حول رأس الرجاء الصالح - بما يزيد بدرجة كبيرة الوقت للانتشار من نورفولك بولاية فرجينيا إلى الخليج والمحيط الهندي." ومازالت الولاياتالمتحدة تتعامل مع تبعات قطع المعونات العسكرية عن دولة أخرى منذ سنوات عدة. ففي عام 1990، جمدت الولاياتالمتحدة الدعم لباكستان بسبب العقوبات المتصلة بانتشار الأسلحة النووية. وفي العقد التالي، توترت العلاقة بين الجيش الباكستاني وواشنطن والبنتاغون - حيث امتنع المسؤولون الباكستانيون عن التوجه إلى الولاياتالمتحدة للحصول على تدريبات. وحتى يومنا هذا، وبالرغم من استئناف الدعم، إلا أن مازالت العلاقة تتعافى، وهو ما يؤثر على التعاون في مجال مكافحة الإرهاب. لكن المنتقدين لموقف الإدارة الأمريكية من مصر يتزايدون يوما بعد يوم. فقد دعا السناتور جون ماكين البيت الأبيض مرارا إلى اعتبار إطاحة مرسي انقلابا، ووقف الدعم. وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان إن واشنطن مشتركة في المسؤولية عن إراقة الدماء. والرسالة المشتركة هي أن الحفاظ على روابط مع الجيش المصري أصبح باهظا للولايات المتحدة. "اعتقد أن الوقت حان كي تعترف الولاياتالمتحدة أن ما لدينا هنا هو إعادة ديكتاتورية عسكرية في القاهرة"، حسبما تقول تامارا ويتس من معهد بروكينغز والمسؤولة السابقة بوزارة الخارجية الأمريكية التي انصب عملها خلال فترة الرئاسة الأولى لاوباما على قضايا الديمقراطية في الشرق الأوسط. "هذا يعني أن الولاياتالمتحدة بحاجة لتسمية هذه الأحداث بمسمياتها.. بموجب القانون الأمريكي هي بحاجة لتجميد الدعم للحكومة المصرية لأن هذا كان انقلابا عسكريا وهذا نظام حكم عسكري." كما تقول ويتس إن الجيش المصري سيحافظ على التعاون الأمني مع الولاياتالمتحدة حتى إذا تم قطع الدعم، لأن هذا في مصلحته الخاصة. وفي الوقت الراهن، تعد هذه مجازفة لا تعتزم إدارة اوباما اتخاذها.