«هتف بعلو صوته،.. لن نترك الحارة إلا على جثثنا، وإن أرادوا توسيع الشوارع فلن يكون ذلك على حساب رزقنا، والحرائق الكثيرة التى تندلع من وقت لآخر، بعضها نتاج عشوائية الأسلاك الكهربائية المنتشرة بعرض الشارع».. هذه كانت آخر، صيحة تحذير أطلقها محمد، أحد تجار حارة اليهود، فى وجوهنا، قبل أن يتوارى خلف فاترينة، مكدسة بالإكسسوار الصينى، واصفًا مصير الحارة ووضعها الراهن، التى آلت إليه بعد كثرة الحرائق، بأنه: «على كف عفريت». محمد الذى حمّل الحكومة، النصيب الأكبر من الإهمال فى حق الحارة، وساكنيها، وصف روشتة لعلاجها، ضمّنها، ضرورة تطويرها وتنظيفها بدلا من إخلائها من سكانها، والقذف بهم فى قلب صحراء القاهرةالجديدة.
رؤية محمد، حول أسباب تكرار اندلاع الحرائق، فى الحارة، لم تختلف عن باقى تجار المنطقة، وتتفق فى جزء منها مع الرؤية الشرطية، التى تمحورت حول طريقة تخزين البضائع، وعدم وجود تهوية ملائمة، وضيق شوارع الحارة مما يصعب دخول سيارات الإطفاء عند اندلاع حريق، وهو ما دفع مسئول وحدة الإطفاء فى المنطقة إلى القول: «إذا شب حريق بفعل فاعل، فسيلتهم جميع محتويات المحال التجارية فى 10 دقائق».
لهذه الأسباب وغيرها ذهبت «الشروق» إلى هناك، حيث الحارة العتيقة، ترصد مشكلات السكان، وتحقق فى شكاوى التجار.
على باب الحارة، تخطفك أزقة ضيقة لا يتجاوز عرض الواحد منها، مترين، محال تجارية متراصة، وبضائع صينية الصنع مكدسة على الجانبين، ورش مختلفة، هكذا هو حال حارة اليهود التى تبعد خطوات عن وسط القاهرة، وتضم أكثر من 300 زقاق، وعطفة صغيرة، وتعتبر من أشهر المناطق التجارية والصناعية بالقاهرة.
تتجسد مشكلة حارة اليهود فى كثرة الحرائق، التى باتت سمتها الأساسية، التى ما إن تخمد إحداها، حتى تشتعل غيرها فى شهور قلائل، وأمام تعدد أسباب اشتعالها، ما بين ماس كهربائى، أو عن طريق إلقاء أعقاب السجائر، بالقرب من تلال القمامة، تظل الكارثة واحدة، خسائر بالملايين، وخراب بيوت يفوق الحد.
يقول على محمد، صاحب محل بالحارة: «هناك الكثير من الحرائق التى تندلع من وقت لآخر، أغلبها ينتج عن الأسلاك الكهربائية المتشابكة فى الحارة والتى توجد بطريقة عشوائية، حيث أغلب التوصيلات الكهربائية الموجودة قديمة جدا وغير آمنة وتؤدى فى أوقات كثيرة الى تعطيل الكهرباء ونشوب الحرائق».
اضطررنا لشراء عدد كبير من طفايات الحريق التى نلجأ إليها فى حال نشوب حريق بالحارة، حتى وصول سيارات الإطفاء ورجال الدفاع المدنى الذين يواجهون صعوبة بالغة فى الوصول إلى مكان النيران، نظرا لضيق ممرات الحارة، بالإضافة إلى عدم وجود حنفيات للحريق، ويكشف محمد عن بعض أسباب اندلاع الحرائق فى حارته: «أصحاب المحال التجارية بالحارة يخزنون البضاعة فى مخازن صغيرة جدًا، بجوار محالهم.. وهناك مخازن أوسع خارج الحارة لتخزين البضاعة الكبيرة.. البضاعة المخزنة أغلبها من خامات البلاستك والإكسسوارات التى تحتوى على مواد سريعة الاشتعال وهو ما يؤدى الى صعوبة احتواء أى حريق فور نشوبه، وانتشاره بصورة كبيرة فى العقارات التى تضم المخازن».
ويزيد محمد، من توضيح أزمتهم، قائلا: العقارات الآيلة للسقوط بالحارة يخطر أصحابها لإخلائها، وتمنحهم الدولة، مساكن بديلة، فى المدن الجديدة، إلا أن غالبية السكان يرفضون تنفيذ قرارات الإخلاء، ويتمسكون بالبقاء فى الحارة نظرا لقربها من وسط القاهرة.
وأرجع رضا عبد اللطيف، صاحب محل بقالة بالحارة، سبب كثرة نشوب الحرائق، إلى ضيق الحارة، بجانب أن الأهالى لا يكتفون بذلك وإنما من يقوم ببناء عقارات جديدة، ويتجاوزون فى التعدى على حرم الشارع، مما يعقد الأمور.
وأضاف عبداللطيف: الحريق الأخير الذى نشب منذ شهر تقريبا تسبب فى إتلاف العديد من المحال التجارية بالمنطقة وبشكل خاص محال الملابس، كما طال الحريق جزءا من مسجد مجاور للحريق.
«سيارات الإطفاء تأتى فور التبليغ عن الحريق، إلا أنها تواجه صعوبة بالغة فى الوصول الى المنطقة المتواجد بها الحريق وتضطر فى أغلب الحيان إلى ترك السيارات فى الخارج مستخدمة خراطيم الاطفاء للسيطرة على النيران».
وتابع: كان هناك خطة توسع وتنظيم من قبل الحى تم وضعها لتنظيم وتجميل حارة اليهود، منذ ما قبل عهد مبارك، إلا أنها لم تطبق حتى الآن، لا أعلم سر توقفها، فالعقارات التى يتم هدمها بالحارة يشيد بدلا منها محال تجارية أو مصانع فأصبحت الحارة منطقة تجارية صناعية وليست سكنية.
ومن وجهة نظر عبد اللطيف، فإن سكان الحارة يواجهون العديد من المشكلات منها عدم إنارة الشوارع، وانقطاع الكهرباء بصفة مستمرة وعلى فترات طويلة، بالإضافة الى عدم رصف الشوارع أو تمهيدها للسير عليها، مضيفا أن رجال الحى والمسئولين عقب ثورة يناير لم يأت منهم أحد للتعرف على مشكلات الحارة، ما دفع الكثير إلى استغلال الظروف وبناء عقارات عالية الارتفاع ومتعددة الطوابق مخالفين بذلك التنظيم الخاصة بالمنطقة.
فيما كشف أحمد سيد، مواطن يقطن حارة اليهود، عن أن هناك أماكن خالية وأرض فضاء استغلها أصحاب المحال التجارية، وأهالى المنطقة بإلقاء القمامة التى تخرج من المحال والشقق السكنية، مثل «خرابة أشرف» التى تسببت فى حريق هائل فى شهر يناير الماضى، أتى على محتويات سبعة محال، وثلاثة مخازن، وقدرت الخسائر وقتها بنحو 8 ملايين جنيه.
وأشار سيد، إلى أن تلال القمامة المتجمعة بمناطق بالحارة وبالأخص خلف المحال التجارية، أحدثت حرائق كثيرة نتيجة إلقاء «أعقاب عقب السجائر» عليها، مما يساعد فى اندلاع الحرائق، وامتدادها إلى المحال التجارية والعقارات المجاورة، مطالبا الحى بإزالتها ووضع صناديق خاصة بالقمامة.
المقدم شريف خالد، رئيس منطقة إطفاء الاوبرا، لم يذهب بعيدًا، فى تحليله لأسباب اندلاع حرائق حارة اليهود، ويرى أنها كثيرة، منها، طريقة تخزين أصحاب المحال للبضائع وخصوصا التى تحتوى على خام القطن، حيث «يقوم أصحاب المحال بتخزين كميات كبيرة من الأقمشة داخل مخازن صغيرة الحجم ومغلقة ولا تحتوى على فتحات تهوية تساعد على تكوين الانبعاث الحرارى من الأقمشة معتمدين على ستر ربنا».
ويوضح خالد: أن البلاغ الأخير الذى تلقاه من حارة اليهود كان منذ شهر تقريبا، ويقول إن رجال الحماية المدنية عانوا الأمرين عند ذهابهم لإطفاء الحريق.. لم يجدوا أى فتحات تهوية بالمخازن التى نشبت بها النيران، الأمر الذى جعلهم يستغرقون 14 ساعة فى إخماده، بعد أن وصول النيران إلى الشقق المجاورة.
ويكمل: «المشكلات التى يواجها رجال الحماية المدنية أثناء أطفاء أى حريق بالحارة ضيق ممراتها، وعدم تعاون البائعين فى إزالة بضائعهم من أمام السيارات أو تباطؤهم فى ذلك، وعدم مبالاتهم بحجم المشكلة»، بجانب «عدم وجود شبكة إطفاء جيدة بالمكان، بعد تكسير مضخات المياه من قبل البائعين بزعم أن مظهرها غير جمالى وأنها تسرب المياه الى المحال، وهو ما يعوق رجال الحماية المدنية».
ويضيف رئيس وحدة المطافئ: «إذا نشب حريق بفعل فاعل سيتم حرق جميع محتويات المحال التجارية فى عشر دقائق ولن يستطيع رجال الحماية المدنية السيطرة على الحريق، بسبب المخزونات الموجودة بها»، لذا يقترح للتقليل من نشوب الحرائق بالحارة نقل المخازن المكدسة بالضائع إلى أماكن خارج المنطقة تتوافر بها شروط التخزين السليمة، وإعادة هيكلة شبكة الإطفاء الموجودة بالحارة من قبل الحى بحيث تكون المسافة بين كل مضخة مياه والأخرى 20 مترًا على الأكثر.
الكارثة الحقيقية يكشف عنها رئيس وحدة مطافئ الأوبرا شريف خالد، بقوله: «خاطبنا الحى أكثر من مرة بخطورة المشكلة، ولا مجيب».