لا يمر يوم إلا ونسمع فيه عن اندلاع الحرائق بالمحالّ والورش الموجودة وسط المناطق السكنية، ومنها على سبيل المثال الحريق الكبير الذي وقع في ورشة للأخشاب بمنطقة الدرب الأحمر، مما أدى إلى انهيار عقار من ثلاثة طوابق، ووفاة شخصين، ولقيت قوات الدفاع المدني معاناة شديدة عند محاولة الوصول للمنطقة؛ بسبب ضيق الحواري، وعدم وجود مصادر لتوفير المياه اللازمة للإطفاء، علاوة على الانهيارات التي تحدث بالمناطق التي تنتشر بها المحالّ التجارية في أدوارها الأرضية، مثل "الفجالة" التي شهدت 11 انهيارا عقاريا مؤخرا خلال 38 يوما فقط!. حادث آخر وقع بمنطقة النزهة؛ عندما انهار جزء من منزل، وأثبتت المُعاينات التي أجريت على المبنى أن السبب كان في وجود المحالّ والورش بالدور الأرضي بالمنزل، والتي تسببت في زيادة الشروخ الموجودة به أصلا، وأصبح العقار كله مهددا بالانهيار. مثل هذه الحوادث تقع بشكل دائم، والمشكلة أن بعض أصحاب العقارات يقومون بتحويل الشقق السكنية إلى أنشطة تجارية، بحثا عن مزيد من الأرباح، دون مراعاة لشروط الأمان، والحفاظ على حياة السكان. الشقة تحوّلت إلى مقهى! تجوّلت بعدد من المناطق؛ لرصد الكارثة التي تتزايد بشكل مستمر، مع تزايد العقارات الآيلة للسقوط، والتي وصل عددها إلى 112 ألف عقار -حسب إحصائية وزارة الإسكان- والتي صدر ضدها قرارات إزالة، ولكن لم تُنفّذ. وكانت البداية بمنطقة "الدرب الأحمر"، حيث التقيت بأحد السكان يُدعى "فؤاد عبد الرحمن"، والذي يُقيم بجوار أحد المقاهي، وقال: "قبل عامين كان المقهى عبارة عن شقة سكنية بالدور الأرضي، وقرر صاحب العقار تأجيرها كمقهى مقابل 500 جنيه شهريا، رغم أن العقار كله آيل للسقوط، ولا يتحمّل وجود أنشطة تجارية به، ولم يلتفت صاحب العقار إلى أن المقهى يستخدم كميات كبيرة من المياه، قد تُؤثّر على أساسات المنزل، هذا بخلاف الضوضاء التي يعاني منها السكان طوال اليوم، ناهيك عن المشاجرات التي تحدث بشكل دائم بين المترددين على المقهى، ولا نسمح لأطفالنا بنزول الشارع بعد الرابعة عصرا، وتقدّمنا بأكثر من شكوى للحي ولكن لم يسأل فينا أحد". في مناطق كثيرة تنتشر ظاهرة تحويل الوحدات السكنية إلى ورش لتصليح السيارات المعاناة من المخبز ويُعاني "مصطفى رمضان" -الذي يسكن بمنطقة دار السلام- من قيام صاحب العقار بتحويل الدور الأرضي إلى مخبز، ويقوم بتشغيله دون مراعاة لاشتراطات الأمن الصناعي، وهو ما يُعرّض حياتنا للخطر، فمنذ خمسة أشهر اشتعل حريق داخل المخبز، وامتد إلى الشقق السكنية، وأصيبت سيدة وابنتها بحروق خطيرة، بعدما اشتعلت نوافذ شقتهما. أضاف: "الغريب أن صاحب المخبز عاود نشاطه مرة أخرى، وخوفا من تكرار الحادث قمنا بشراء أدوات إطفاء على حسابنا الشخصي". تساقط حوائط المنزل وفي منطقة "الأميرية" تنتشر ظاهرة تحويل الوحدات السكنية بالأدوار الأرضية إلى ورش لتصليح السيارات، وهو ما حدث في عقار تسكنه "صابرين حمودة" التي تصرخ من قيام صاحب العقار بتأجير الدور الأرضي، وتحويله بأكمله إلى ورشة "سمكرة ودوكو" سيارات، بعدما أزال بعض أساسات المنزل، وهدم أحد الحوائط وأعمدة خرسانية، لتوسعة الورشة، مما أدى إلى حدوث تصدّعات في هيكل البناء بأكمله، وتساقط أجزاء من السقف. "بولاق أبو العلا".. منطقة العقارات الآيلة للسقوط الأمر يُعتبر أكثر خطورة في منطقة بولاق أبو العلا؛ لأنها تضم العديد من العقارات الآيلة للسقوط، ورغم ذلك فالمحالّ تنتشر بها بشكل مخيف، خاصة أن المنطقة تضم محالّ "وكالة البلح" التي تبيع الملابس وقطع غيار السيارات وغيرها، لدرجة أنه لا يخلو عقار من وجود ورشة أو محل، وأصبحت المنطقة بشوارعها وحواريها عبارة عن سقف تجاري، وهو ما دفع أصحاب العقارات إلى الاستغناء عن السكان، واستبدالهم بمشروعات تجارية، لتحقيق مكسب أكبر، دون مراعاة لحالة العقار أو المخاطر التي تحيط بمن تبقى من السكان!. كثير من المنازل صدرت لها قرارات إزالة ومع ذلك يقوم أصحابها باستغلالها قرارات دون تنفيذ أشار "صفوت منير" -أحد سكان المنطقة- إلى أن كثيرا من المنازل والعقارات بالمنطقة صدرت لها قرارات إزالة أو تنكيس، ومع ذلك يقوم أصحابها باستغلال أكبر مساحة منها؛ لتحويلها إلى أنشطة تجارية، لحين إخلائها من المقيمين بها، ولكن السكان يصرّون على البقاء؛ لأن معظمهم من الفقراء، الذين ليس أمامهم بديل آخر، في حين أن مسئولي الحي أو المحافظة لا يهتمون بشيء سوى إصدار القرارات، دون تنفيذ فعليّ. وأوضح أن وجود مصنعين بأحد العقارات تسبّب في انهيار أربعة حوائط من الجانب الأيمن للعقار؛ بسبب وجود ماكينات ثقيلة أدت إلى تفتّت الأساسات. وتضيف "هيام محمد"، وهي من سكان المنطقة: "نحن في انتظار الموت في أي لحظة، فأنا أقيم في حارة ضيقة معظم منازلها منهارة، ومؤخرا انهارت إحدى العمارات فوق سكانها؛ بعد قيام مالك العقار بتأجير الدور الأرضي به إلى مخزن لعبوات البنزين، وقد تسبب ذلك في اشتعال حريق هائل، أدى إلى خلل الأساسات، وطال أربعة محال مجاورة". ارتفاع أسعار المحالّ أما أصحاب المحالّ والأنشطة التجارية، فكانت لهم وجهة نظر أخرى.. فيقول "ياسر شعبان"، صاحب ورشة ميكانيكا بمنطقة الوايلي: "أسعار المحالّ مرتفعة جدا، ويتراوح الإيجار الشهري لها ما بين 2000 و5000 جنيه في المنطقة، ولذلك اتجهنا إلى تحويل الشقق السكنية لمشروعات تجارية، ورغم المخالفات التي تحرر ضدنا فإنه ليس لدينا بديل سوى الاستمرار في نشاطنا؛ لأن هذه المحالّ هي مصدر رزقنا الوحيد، ولا نجد محالّ إلا في المناطق البعيدة عن الزبائن، وهو ما يدفعنا إلى استغلال كل شبر بالعقار مهما كانت خطورة الأمر". يبقى مسلسل الإهمال مستمرا ما دامت روح المواطن رخيصة في وطنه انتهاء العمر الافتراضي ويضيف "عصام عبد التواب"، مهندس معماري من سكان منطقة بولاق أبو العلا": هناك عمارات سكنية يتم تصميمها على أساس أن الدور الأرضي محالّ تجارية، ولذلك تُراعي المواصفات الهندسية، ولكن الخطير أن نجد عقارات ومنازل قد انتهى عمرها الافتراضي وتهالكت تماما، ثم تتحول الأدوار الأرضية بها إلى محالّ تجارية بعد تكسير الحوائط والأساسات". ونظرا لغياب الرقابة من قبل الأحياء فإن المسئولين يُفاجأون بحدوث المخالفات، ولا يملكون سوى عمل المعاينات وحرير المخالفات، وفي النهاية يتم التصالح مع المخالفين بدفع غرامة مالية، وبعدها يتم إجراء التراخيص". عقارات المناطق الشعبية والعشوائية ويرى الدكتور "أحمد شلبي" -الخبير بهيئة التخطيط العمراني- أن استخدام الشقق السكنية في أنشطة أو مشروعات معينة، قد يستخدم أصحابها مواد خطرة بدون توفير وسائل للأمان، يشكل خطورة كبيرة على أي عقار، خاصة في المناطق العشوائية والشعبية، حيث تنخفض متانة المباني، وهو ما يُعجّل بانهيار المباني، إضافة إلى التلوث البيئي والإزعاج الذي يهدد أرواح السكان. ويبقى مسلسل الإهمال عرضا مستمرا لا ينتهي؛ ما دامت روح المواطن رخيصة في وطنه؛ فالرقابة غائبة، والمسئولون في حالة سُبات دائم، لا يقدرون إلا على التصريحات الوردية فقط.