الثورات ليست شققا سكنية، وبالتالى لا يمكنك أن تفتح ثورتين على بعضهما البعض، وتسمى ذلك وحدة ثورية. وكما لا تستطيع أن تضع خالد سعيد وحبيب العادلى فى خانة واحدة، لا يمكن منطقيا أن يكون حاصل جمع «بتوع المنصة والعباسية» مع متظاهرى التحرير قبل أن يتلوث كتلة ثورية جديدة ..وكذلك لا يمكن أن تتسع لافتة ثورية واحدة لصور البرادعى (على سبيل المثال) وعمر سليمان وطنطاوى وعنان.
لقد كان المشهد معبرا بصدق عن حالة تشوش أمام دار القضاء العالى أمس فيما عرف بمليونية «مابنتهددش» وبصرف النظر عن أن تعبير «مليونية» يبدو فكاهيا للغاية قياسا بالأعداد الموجودة.
فالذى حدث أن أشخاصا ممن تربوا وترعرعوا على هتافات جرى نحتها فى ذروة التلمظ الفلولى من ثورة 25 يناير، وتجلت فى مظاهرات كرتونية تهتف بحياة العسكر، التحموا بآخرين يدركون جوهر أهداف وشعارات ومبادئ هذه الثورة، عبر وسائط من عشاق البيادة القدامى، فى مظاهرة واحدة.
وكان طبيعيا أن يحدث الاصدام بين شعارين، أحدهما مالح والآخر لا يزال محتفظا ببقايا عذوبة ثورية واضحة، على الرغم من محاولات الوسطاء والسماسرة لفتح هويس بين الثورة المضادة، والثورة الحقيقية.
ولو لم يقع هذا الاصطدام، ولو لم يفرض هذا التناقض المبدأ نفسه على هذه اللحظة الدرامية العبثية لكان واجبا أن نقرأ الفاتحة على روح ثورة يراد لها أن تسير فى الطريق العكسى، حاملة رموز الاستبداد والفساد على أكتافها.
إن حالة الغزل الفلولى غير العفيف للثورة لم ينقطع يوما، ودائما كانت هناك ممانعة ومناعة تحول دون السقوط فى هذه الغواية، بيد أن السماسرة لم يفقدوا الأمل، وواصلوا الإلحاح والمطاردة بكل أنواع الإغراءات، وبذلوا جهودا جبارة حتى نجحوا فى إضافة شوائب فلولية إلى الميدان، على طريقة التاجر الجشع الذى يخلط الشاى بنشارة الخشب، ويمزج الدقيق بالجير، مستهدفا تعظيم الحجم والكمية، بغض النظر عن الكيفية واشتراطات الصحة الثورية.
ولن تكون بعيدا عن الحقيقة لو قلت إن ما يجرى الآن هو عملية تلاعب فى أساسات بناء الثورة، وغش مفضوح فى المواد والخامات، ولذلك لن يصمد هذا البناء الفاسد، وسينهار بأسرع مما يتوهم مقاولو الثورة المجنة من قدرة على الاستمرار.
ولا يمكن لصاحب بصر أو بصيرة أن يتوقع نجاح الزواج الحرام بين غضبين، أحدهما نبيل ومعروفة جذوره وأصوله، وغضب اصطناعى مسرطن تتم محاولات زرعه وتوطينه فى تربة ثورية كانت نقية، لكنها من أسف تعرضت للتجريف والحقن بعناصر مدمرة.
لقد كان شعار «إيد واحدة» قيمة وطنية رائعة فى فجر الثورة، لكنه الآن يرتفع مشحونا بمفاهيم وأغراض أخرى، وعبر حناجر اقتاتت على التنكيل بالثورة وتشويه الثوار، فلا تنخدعوا بهذا العناق الكاذب بين الملح الأجاج والعذب الفرات، فقوة هذه الثورة كانت فى نقائها الروحى والآخلاقى واتساقها وتناغمها الفكرى والقيمى بين المشاركين بها، قبل أن تكون فى كثرة الأعداد.. بصرف النظر عن التناقضات الجوهرية بين «جموع التحرير» و«بتوع المنصة».