ابتهج الفلسطينيون كثيرا بحصولهم على صفة «دولة مراقب» فى الأممالمتحدة فى نهاية شهر كانون أول (نوفمبر) الماضى، لكن فرحهم الغامر، الذى عبروا عنه بنزولهم الى الشوارع للاحتفال، سرعان ما تبدد، بعدما اصطدم بحقائق الاحتلال القاسية التى تزداد وتترسخ يوما وراء يوم. فى اليوم التالى للحصول على الاعتراف الدولى، واجه الفلسطينيون حقيقتين كبيرتين: الأولى هى الاستيطان الذى يأكل الارض قطعة وراء قطعة لدرجة أنه لم يبق من الأرض ما يصلح لإقامة هذه الدولة، والثانى تحكم الاحتلال فى مفاتيح الاقتصاد الفلسطينى، وقدرتها على اغلاق شرايين الحياة فى الدولة الوليدة.
•••
فما إن رفعت الأيدى فى قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، معلنة منح فلسطين صفة دولة على الاراضى المحتلة عام 67، بما فيها القدسالشرقية، حتى أصدرت الحكومة الاسرائيلية سلسلة مشاريع لاقامة حوالى عشرة آلاف بيت استيطانى جديد فى أراضى الدولة الوليدة، غالبيتها العظمى فى القدسالشرقيةالمحتلة التى اعترف بها العالم عاصمة لفلسطين.
وتركزت مشاريع التوسع الجديدة داخل وحول القدس بهدف فصلها كليا عن الضفة الغربية. ففى الشرق، أقرت مشروعا لاقامة مستوطنة جديدة تسمى (E1) أى القدس الأولى، تكمل الحلقة الاستيطانية حول المدينة، وفى ذات الوقت تفصل وسط وشمال الضفة الغربية عن جنوبها. وفى الجنوب، أقرت مشروعا ثانيا لاقامة مستوطنة أخرى هى «جبعاث حمتوس» لتكمل الحلقة الاستيطانية التى تفصل المدينة عن بيت لحم والجنوب.
وتقيم اسرائيل 145 مستوطنة فى الضفة الغربية، يضاف اليها 125 بؤرة إستيطانية صغيرة اقامها المستوطنون فى مناطق حيوية، لتكون بمثابة أنوية لمستوطنات كبيرة مستقبلا.
وتتوزع المستوطنات فى مختلف أنحاء الضفة الغربية من الشرق الى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب، بحيث تحول دون إقامة دولة فلسطينية متصلة الأجزاء.
•••
وتشير الأرقام الواردة من اسرائيل الى ان أعداد المستوطنين يتزايد بصورة متسارعة. وبين أحد التقارير الأخيرة المهمة أن عدد المستوطنين تضاعف مرتين خلال السنوات ال12 الماضية. وجاء فى التقرير الذى نشرته صحيفة «إسرائيل اليوم» المقربة من رئيس الوزراء الاسرائيلى بنيامين نتنياهو، واستندت فيه الى سجلات السكان فى الدولة العبرية، أن عدد المستوطنين فى الضفة الغربية، بما فيها القدس، وصل الى أكثر من 650 ألفا، بزيادة قدرها 150 الفا على الرقم المعروف والشائع.
وتوقعت الصحيفة ارتفاع عدد المستوطنين الى مليون خلال السنوات الأربع القادمة.
وتسيطر إسرائيل على 60 فى المائة من مساحة الضفة الغربية تستغلها فى توسيع المستوطنات. وخصصت 70 فى المائة من هذه المنطقة التى تخضغ لادارتها الأمنية والمدنية بموجب اتفاق اوسلو، للتوسع الاستيطانى ولاقامة المعسكرات والمزارع.
•••
وتمثل الرد الاسرائيلى الثانى على حصول الفلسطينيين على الاعتراف الدولى فى احتجاز أموال الجمارك التى تشكل أكثر من ثلثى ايرادات الدولة الوليدة.
ويقضى اتفاق اوسلو والملحق الاقتصادى الخاص به أن تتولى اسرائيل التى تسيطر على مختلف معابر الاراضى الفلسطينية، تحصيل الجمارك عن السلع القادمة الى هذه الاراضى، وتحويلها للسلطة بصورة شهرية، مع خصم نسبة 3 فى المائة منها كرسوم تحصيل.
ودأبت اسرائيل على استخدام هذه الاموال كوسيلة ابتزاز سياسى ضد السلطة الفلسطينية لاجبارها على اتخاذ مواقف أو التراجع عن مواقف معينة. وحسب رئيس الوزراء الدكتور سلام فيض فان اسرائيل استخدمت هذه الاموال للضغط على السلطة الفلسطينية ست مرات منذ عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات.
وأحدث احتجاز اسرائيل لاموال الجمارك أزمة مالية خانقة للحكومة الفلسطينية تركها غير قادرة على دفع رواتب موظفيها وتقديم الخدمات للجمهور.
•••
وكانت الحكومة الفلسطينية تعانى فى الأصل من أزمة مالية جراء تراجع الدعم العربى. وحسب فياض فإن ايرادات حكومته لا تتجاوز 50 مليون دولار شهريا، يضاف اليها حوالى 120 مليون دولار قيمة الجمارك التى تحتجزها اسرائيل. أما المصاريف فتبلغ 300 مليون دولار شهريا، منها 200 مليون دولار رواتب للموظفين، و100 مليون دولار مصاريف جارية بينها مخصصات مالية لأسر آلاف الشهداء والاسرى.
وبدأت الازمة المالية فى السلطة الفلسطينية منذ العام 2010، جراء تراجع وتوقف بعض الدول المانحة عن تقديم الدعم لها. وقادها ذلك الى اللجوء الى القروض. وتفاقمت الأزمة بصورة أكبر فى العام 2012 جراء تراجع النمو الاقتصادى المحلى الناجم عن تراجع الانفاق الحكومى.
وأمام عجزها عن دفع رواتبهم، لجأ موظفو الحكومة الى سلسلة اضرابات ادت الى اصابة الخدمات الحكومية المقدمة للجمهور بالشلل. ويقول قادة الدولة الفلسطينية بأن الأزمة الحالية تهدد، فى حال استمرارها، بانهيار مؤسسات وخدمات الحكومة.
•••
وكانت الدول العربية تعهدت بتوفير شبكة أمان مالية للسلطة الفلسطينية بقيمة مائة مليون دولار شهريا، فى حال اقدمت اسرائيل على احتجاز اموال الجمارك ردا على لجوء السلطة الى الأممالمتحدة، لكن هذه الدول لم تف بعد بهذه التعهدات.
ويقول فياض بأن المخرج الوحيد من الأزمة المالية الخانقة للسلطة هى تراجع اسرائيل عن قرارها او تلقى مساعدات عربية عاجلة.
ويتوقع خبراء الاقتصاد أن تلازم الازمة المالية الدولة الفلسطينية لسنوات طويلة قادمة بسبب عدم قدرة الفلسطينيين على بناء اقتصاد حر جراء سيطرة اسرائيل على حوالى أكثر من 60 فى المائة من مساحة الضفة الغربية، بما فيها القدسالشرقية، وفرض قيود على حركة السلع من والى الاراضى الفلسطينية، تحول دون نشوء وتطور الاستثمار فيها.
ويرى الخبراء أن المخرج المثالى من الازمة يتمثل فى الاستقلال السياسى والاقتصادى عن اسرائيل، والشروع فى خطة تنموية تتضمن بناء مناطق صناعية قادرة على خلق وظائف للقوى العاملة التى تزداد سنويا. وأمام تعذر ذلك فان الدولة الفلسطينيةالمحتلة ستظل لسنين، وربما لعقود قادمة تعتمد على المساعدات الخارجية.