وقفت القوى الوطنية والأحزاب السياسية المصرية فى أواخر عام 1925م موقفا حاسما فى وجه الطغاة، وحاربت من أجل القضاء على الحكم الاستبدادى، وإعادة الحياة الدستورية للبلاد. كان اجتماع البرلمان الذى حله الملك بدون وجه حق فى 23 مارس 1925م، مخالفا أحكام الدستور، بداية الصدام مع الدكتاتورية، فاجتمع البرلمان من تلقاء نفسه فى السبت 21 نوفمبر 1925م فى فندق الكونتننتال، بعد أن منعته الحكومة من الاجتماع فى مقره الطبيعى بقوة السلاح، وأصدر مجلس النواب قرارا بسحب الثقة من حكومة زيور باشا الموالية للقصر، والتى قادت الانقلاب على الدستور.
تجاهلت حكومة زيور قرارات البرلمان، واستمرت فى تحديها للإرادة الشعبية، ثم أجرت تعديلا شكليا فى تشكيلها يوم 30 نوفمبر لتؤكد أنها غير مهتمة باجتماع البرلمان.
ثم أقدمت فى 6 ديسمبر 1925م على جريمة فى حق مصر، فوقعت على اتفاقية بالتنازل عن واحة (جغبوب) لايطاليا، والتى كانت تحتل ليبيا وقتها، وذلك تلبية لرغبة انجلترا فى مجاملة إيطاليا على حساب مصر، وهو ما يعد مخالفة صريحة لنصوص الدستور المصرى، والذى ينص فى المادة الأولى منه «مصر دولة ذات سيادة وهى حرة مستقلة، ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شىء منه وحكومته ملكية وراثية وشكلها نيابى».
ثم أسرعت الوزارة فى 8 ديسمبر 1925م بإصدار مرسوم بقانون جديد للانتخابات، لتؤكد أنها صاحبة اليد العليا فى البلاد، وأتى ذلك القانون ليؤكد نيتها فى التلاعب فى الانتخابات، فضيقت فيه حق الانتخاب، فجعلت التصويت على درجتين، ورفعت سن الناخبين إلى 25 سنة بدلا من 21 سنة، كما كان فى قانون 1923م، واشترطت توافر نسبة دخل معينة فى الناخبين، والحصول على شهادة عليا، وكان الهدف من القانون حرمان الوفد من قاعدته الشعبية، والتى يحرم القانون معظمها من حق التصويت.
تزايد السخط الشعبى على النظام الاستبدادى اللادستورى الذى يحكم البلاد، وأصدرت الأحزاب المصرية الثلاثة، الوفد، الأحرار الدستوريين، والحزب الوطنى، فى 9 ديسمبر 1925م بيانات تندد باتفاقية (جغبوب)، وتعلن رفضها لقانون الانتخابات الجديد، ودعت الأمة المصرية لمقاطعة الانتخابات التى تتم على أساسه، والمطالبة باحترام القرارات التى أصدرها اجتماع البرلمان فى 21 نوفمبر، والعمل على إسقاط وزارة زيور، والدفاع عن الدستور.
استمرت الوزارة فى تجاهلها للمطالب الشعبية، وبدأت فى الأعداد لإجراء الانتخابات طبقا للقانون الجديد، فبدأت وزارة الداخلية فى إرسال الدفاتر والأوراق إلى المديريات والمحافظات، للبدء فى إعداد الجداول الانتخابية طبقا للشروط الموضوعة فى القانون الجديد.
فى ظل إصرار الحكومة على المضى فى استبدادها، واستهزائها بالقانون والدستور، أعلن عمد مركز تلا بالمنوفية امتناعهم عن تنفيذ ذلك القانون، معتبرين أنه قانون غير دستورى، ولا يلزمهم فى شىء.
أثار موقف العمد ارتباك الحكومة، فأرسل زيور مندوبا إلى المركز ليقابل العمد الممتنعين، وخيرهم ما بين تنفيذ القانون أو الفصل، فأصر عشرة منهم على موقفهم، ففصلتهم الحكومة، فسارع زملاؤهم بالتضامن معهم، واستقالوا جميعا من العمودية، وتبعهم العديد من العمد بطول البلاد وعرضها، فدخلت الحكومة فى أزمة لم تكن تتوقعها.
أسرعت الوزارة بتحويل كل العمد الممتنعين إلى المحاكمة، فى محاولة للسيطرة على الوضع، واعتمدت على المادة 108 من قانون العقوبات والتى تقضى بمعاقبة الموظفين أو المستخدمين إذا اتفق ثلاثة منهم على ترك عملهم بدون مسوغ شرعى، لكنها لم تستطع أن توقف موجة الاستقالات.
وصدرت الأحكام ببراءة جميع العمد المستقيلين، فأثبت القضاء استقلاله، ووضع الوزارة فى مأزق كبير.
ويحكى المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى فى كتابة «فى أعقاب الثورة المصرية الجزء الأول» عن اشتراكه فى الترافع عن أحد العمد المستقيلين، وهو الشيخ محمد عبدالجواد، عمدة «كفر نفره» مركز «السنطة» بمدرية الغربية (مركز بركة السبع محافظة المنوفية الأن)، وقد نظرت قضيته أمام محكمة جنح السنطة يوم الأربعاء 27 يناير 1926، وقد قضت المحكمة بالبراءة على جميع المتهمين فى تلك الجلسة، ويقول الرافعى «وأقام لنا الشيخ محمد عبدالجواد وليمة غذاء فى هذا اليوم بمنزله بكفر نفره حضرها المحامون الذين دافعوا فى القضية وجمع من الأعيان، وكانت الجموع محتشدة فى السنطة وفى كفر نفره تحى هيئة الدفاع وتهتف للدستور».
اضطرت الوزارة للانصياع للإرادة الشعبية فى نهاية الأمر، وأسقطت قانونها سيئ السمعة، وأعادت القانون رقم 4 لسنة 1924، والذى أقرة البرلمان الأول لثورة 1919م، والذى ينص على الانتخاب المباشر لجميع أفراد الشعب، وجرت الانتخابات فى مايو 1926، وسقطت وزارة زيور.
ويبقى استبسال الشعب المصرى فى الدفاع عن حقوقه، وشجاعة العمد الذين حاربوا من أجل الدفاع عن الدستور والقانون، وأجبروا الطغاة على النزول على مطالب الأمة، فلو قبل الشعب المصرى بالأمر الواقع، ما سقط الطغاة، ولظلت مصر تعانى استبدادهم.