مع ما تواجهه البلاد اليوم من مشاكل اقتصادية متمثلة فى قضايا الأجور والغلاء وضعف موارد الدولة، واجتماعية فيما نراه من بلطجة وخرق للقانون، وثقافية من فتنة طائفية وتراجع فى النظرة لمكانة المرأة، وسياسية فى مشاكل الحدود والدستور والأحزاب... إلى آخره من المشاكل التى تثقل كاهل الحكومة والرئيس.. بحيث أصبح مجرد الحديث عن التراث المعمارى ترفا لا تقدر عليه البلاد. عندئذ يسهل اتهام المدافعين عن التراث بأنهم حالمون ومترفون ولا يشعرون بحال الآخرين، وهذه ابسط الاتهامات واكثرها تأدبا.
لكن الحقيقة ليست كذلك. الحقيقة (الأولى) أن التراث المعمارى يقف عائقا أمام البعض القليل من الشعب نحو تكوين ثروة. كنا نواجه نفس الاتهامات فى العهد السابق وما زلنا نواجهها فى العهد الجديد بفارق أن الاتهامات تأتينا من قوم جدد، بل يضيفون اتهاما آخر بأننا ننتمى للعهد السابق (فلول) أى والله!!!! وغاب عن هؤلاء أننا وقفنا حجر عثرة أمام النظام السابق فى سبيل حماية مبان معينة ولما ذهبوا وانشغلوا فى قضاياهم، فوجئنا بأن الجدد ينوون اغتيال مبان أخرى ويسلكون مسلك التخريب والترويع فى سبيل مسعاهم.
الحقيقة (الثانية) أن التراث المعمارى يقع فى قلب قضايا الوطن وما أكثر ما عانى فى الفترة الماضية فى ظل غياب الأمن وانشغال القانون لا أدرى هل قام الجهاز القومى للتنسيق الحضارى بحصر عدد الفاقد بالهدم من المبانى ذات القيمة المسجلة فى قوائمه؟ وهل تم الهدم بتصاريح رسمية أم لا؟، فالثانية جريمة والأولى جريمة أكبر إذا شملها تحقيق.
أما الحقيقة الأساسية الذى يعتبر السابق مجرد سرد للتمهيد لها فهى أن التراث المعمارى قضية اقتصادية واجتماعية وثقافية وبالتالى فإنها أيضا قضية سياسية هامة ينبغى الالتفاف إليها.
وبكثير من التبسيط حتى لا أثقل على القارئ: التراث المعمارى قضية اقتصادية لأن العقارات ثروة موجودة بالفعل. وعندما يكون لهذه الثروة قيم أخرى مثل الجمال أو الرمز أو التاريخ، بالإضافة إلى الاستمتاع بالفراغات الداخلية التى تعيد الإنسان إلى نفسه فتكبر الثروة وتثمن أعلى. أعلم تماما أن العائد المادى ضعيف حاليا بالنسبة لملاك العقارات القديمة، وهذا سببه قصور فى القوانين وضعف فى الخبرة فى مجال إعادة التأهيل ودراسات الجدوى المرتبطة بها. ومن منا ينكر بديهة أن المدن العريقة والجميلة تدر دخلا اقتصاديا من السياحة؟ ومجال العائد الاقتصادى للتراث يستحق أن نوجه طاقتنا ناحيته بدلا من توجيهها ناحية اغتيال مبان تمثل ذاكراتنا وهويتنا.
نحترم الملكية الفردية ولكن هؤلاء الجدد يجب أن يتذكروا حق المجتمع أيضا.
التراث المعمارى قضية اجتماعية لأنه ببساطة «يلم شملنا» كل منا له ذكرياته فى بيت جدته وجده (بالفلاحى بيت «سته» و«سيده») ما زال يحرك وجدانى بشدة المونولوج المسرحى الذى كان يذاع عبر «صوت العرب» و«هنا القاهرة» زمان أيام كان الراديو شيئا مهما فى حياة كل الناس
المونولوج يقول: «عواد باع أرضه ياولاد. شوفوا طوله وعرضه ياولاد» وذلك من خلال زفة يقوم بها أطفال القرية لعواد. وتدمع عيناى عندما تتناول أمه حفنة من الطين تدنيها من أنفه وتقول له «شم الطين. فيه ريحة عرق أبوك وجدك من قبله».
ألا يعطيك البيت القديم نفس الرائحة التى تبعث فى النفس الطمأنينة والاقبال على الحياة والثقة فى المستقبل؟ ألا يكفينا ما تم من تشويه وضياع.
أرجو من هؤلاء الجدد ألا يغتالوا ذاكرتنا ويقطعوا الوصل بين «ستى» و«ابنتى» و«حفيدتى».
التراث المعمارى قضية ثقافية لأنه هويتنا وإن ضاع تهنا وإتلخبطت مرجعياتنا، هو أيضا مرجع مفتوح حتى نتعلم منه تكنولوجيات وأساليب فقدناها. التراث نموذج وقدوة نتعلم منه كيف يكون المعمار والبناء (لاحظ أن هناك فرقا بين المعمار والبناء) على أسس سليمة تحترم الإنسان وتحافظ على سلامته الذهنية والنفسية والجسمانية. انظروا حولكم ماذا ترون؟
ترون أبراجا خرسانية أبسط كلمة تقال عنها «قبيحة»!! ماذا عن حال الإنسان الذى يسكنها وما هو التقييم النفسى والتربوى لأبنائه؟؟ على الأقل اتركوا لنا الباقى من التراث (وهو قليل) ربما تأتى أجيال أخرى تتعلم منه كيف يكون المعمار والبناء موائما للإنسان والمناخ واستمرارية الحياة المتوازنة والسليمة والعادلة.
إن هؤلاء الجدد يأبون حتى أن يُترك أثر لحضارة ربما تشكل مرجعا ثقافيا وتعليميا لأجيال قادمة قد ترى فيها مصدرا لعمران جديد أكثر إنسانية.
يحدث الآن فى بورسعيد «المدينة الباسلة» نقاش مجتمعى سياسى حاد بين أطياف من الشباب والشابات الواعين بقيمة التراث يساندهم المحافظ الشجاع المدرك لقيمة التراث ودوره فى هذه المدينة، التى أبدا لن تكون باسلة إذا فقدت تراثها.
فى المقابل يوجد هؤلاء الجدد الذين يريدون اغتيال بيت «ستى».