إذا نزلت مدينة يمكنك التعرف باحوالها من طلة علي مبانيها، تدرك مكنون حاضرها.. المعمار ليس خطوطا ولا تصميمات تتجسد في بنيان. لابد ان يكون وراء العمارة فكر. بدونه تفتقد الروح والحضور، تبهت وتتحول إلي بنايات بلامعني ولا شخصية بل ربما شاهد علي قبح زمانها. لذا يعرف المعمار بكونه ذاكرة الشعوب، بل هو التاريخ المجسد لمراحل زمنه. الاسبوع الماضي طرحنا الحاجة لاقامة مجتمعات متكاملة يستوطن فيها الشباب. تكفل لهم اسباب معيشة مكتملة تهدف للاستقرار، نطبق فكر الاستيطان باقامة مجتمعات متكاملة جديدة تستوطن الصحراء خارج الوادي الضيق وتتوافر فيها كل وسائل المعيشة من عمل وسكني - زراعة وصناعات زراعية - وحياة اسرية شاملة وحلقة اليوم لا تستلهم الشباب فقط واقامة المجتمعات الجديدة، بل تخاطب كذلك محبي الجمال في كل صوره. مرهفي الحس وهؤلاء من تسيئهم مشاهد القبح وقد غزت حياتنا متمثلة في معمار إن دل علي شيء فهو الانحدار في شتي صوره ومعانيه ونأسف للتعمير وانما الغالب يكتسح القليل وانحدار الفكر وانسحاب الذوق وتداعي الرقي وما تشهده البلاد منذ ستينيات القرن الماضي انما هو انعكاس لما يجري ويحدث اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا: انه عنوان المرحلة.. ومعمار ما قبل لا يزال شاهدا علي فكر مهندسي عصره، اقرب إلي شعر مرئي محسوس متجل في مبان مازالت تحادث الوجدان. فاما فكر ما بعد فهو النشاز المجسم في غابات من اسمنت، فما عدنا نعرف غير شح الاذواق إلا فيما ندر. المساكن الشعبية والمتوسطة تمثل القبح ذاته، فأما مباني الثراء فحدث ولا حرج عن فجاجة الترف وتنافر النسق واستعراضات الثروة الرخيصة، هذا القليل النادر، فيا كل من تولول عينايه لفرط التعاسة والتناقض بين معمار عريق مازال ماثلا، ومعمار حاضر مشوه متنافر، إلي كل هؤلاء ممن لايزال يتساءل عما جري لنا وحدث، لا اجابة سوي اننا نحن وما نصنع لانفسنا بانفسنا، ولكل من يشقي بحس مرهف، يضعف أمام مشاهد الجمال المعماري اقول له ابشر، ولنزف اليكم المفهوم الجديد لهذا المعمار المستدام الاخضر النظيف الصحي المختلف والأروع في الشكل والمضمون والروح، معمار سبقنا إليه اكثر من نصف العالم المتقدم، بل وممن تسابقوا إليه دولة الامارات العربية! فما يحدث في عالم المعمار ليس تطويرا بل ثورة حقيقية في العمارة وفكر ومفهوم آخر. بطلة حلقة اليوم مهندسة معمارية تنتمي الآن لتلك المدرسة المعمارية المكتسحة، هي »د.هند فروح« شابة نابهة مدهشة وممتلئة حيوية وحماسة لهذا اللون من المعمار، بعث بها د.مصطفي الدمرداش إلي الهند في العام الماضي وعاشت هذه التجربة علي الطبيعة لأسابيع ثلاثة كانت نقطة التحول في رؤيتها ونظرتها كليا إلي الحياة والعمارة والناس. في مكتبها بمجلس العمارة الخضراء في المركز القومي لبحوث البناء، شهدت صورا لتلك القرية المدينة »اوروفيل« AUROVELLE معهد التدريب العملي علي الطبيعة لهذا المعمار، بقعة من إنشاء منظمة يونسكو ومفتوحة أمام كل الاجناس للالتحاق بها والتدرب علي المنهج الجديد في العمارة والحياة التي تعيد التوازن بين الكائنات والطبيعة والانسان عودة إلي حكمة الأوائل والنظريات، مع استخدام أحدث التقنيات. في أوروفيل تتعايش اليوم 421 جنسية بالتمام منهم من يدرس ويتدرب ومنهم من اختار العيش والبقاء. البقعة الصفراء القاحلة في الجنوب تحولت إلي غابات خضراء وعمارة بديعة المنظر والشكل، والأهم استعادة الانسان لاهم مقومات حياته: الطاقة الإيجابية والتوازن النفسي والعضوي، فهذا المعمار الأخضر يطوع التكنولوجيا ولا ينقلها ويستخدم التربة المحلية ويخلطها بمواد مستمدة من البيئة الطبيعية، معمار مذهل لفرط الروعة في الشكل ناهيك عن المضمون! مادة البناء مستمدة تماما من التربة المحلية وبخلطة من نسب قليلة متفاوتة من الإسمنت أو الجير والألياف تتحول إلي تربة مثبتة تصنع منها مادة ثقيلة الوزن شديدة الصلابة، عازلة تماما للحرارة والبرودة، ويصنع علي شكل ألواح جاهزة أو قوالب شهدت بعضا منها في مكتب د.هند فروح فوجدتها أقرب في الشكل إلي قوالب صلدة شديدة الصلابة، منها صنع بتجوف يحقق تمرير كل المواسير من خلالها دونما حفر داخلي في البناء كما في المعمار التقليدي الذي يحتاج لمحارة ودهانات وغلبة وتكاليف، أما هذه القوالب فلا حاجة لها بمحارة ولا بياض من الداخل ولا الخارج وباضافة مؤكسدات معينة يمكن الحصول علي أي ألوان طبيعية تراد للبناء الخارجي أو للداخل بدون دهانات ولا عرضة لعوامل التعرية أو تأثيرات الرطوبة ولا حاجة لإعادة طلاء أو ترميم. المظهر الجمالي من حيث الشكل وتوافر شروط التهوية الطبيعية مذهل، ويفوق الوصف من حيث البساطة مع الذوق الرفيع. الصور التي شهدتها علي شاشة المونيتور تسحب شهقة من القلب! حكاية المعمار الأخضر مع مصر بدأت عام 9002 عندما كان د.مصطفي الدمرداش يزور الهند والتقي هناك بالمهندس المعماري الفرنسي عالمي الشهرة بروفسور Lalle عاشق الهند الذي قضي فيها 91 عاما متصلة فهو من اساطين المعماريين مؤسسي هذه المدرسة المعمارية في اوروفيل. فما أن عاد بعد اللقاء حتي بادر بتشكيل المجلس المصري للمعمار الاخضر وضم إلي المجلس من غير الوزارات المعنية عالمي البيئة الدوليين: د.مصطفي كمال طلبة ود.محمد القصاص. وإلي الاسبوع القادم »الحاضر والمستقبل«.