فى مواجهة الموت دائما وكأنهم على «الجبهة»، لكنها جبهة من نوع آخر، العدو الأقوى فيها الفقر، بما يملك من أسلحة، بينما لا يملك هؤلاء الغلابة أى شىء لمواجهته حتى مساعدة الدولة تبقى «حبرا على ورق»... هكذا ينتظر أهالى الدويقة «الموت» فى كارثة، كل سنة تقتل العشرات وتشرد المئات منهم. فى الدويقة.. يصبح الأهالى كل يوم وعيونهم متعلقة بالصخرة الضخمة التى يقبعون تحتها فى خوف من أن تتهشم على رؤوسهم، فى مشهد شبه مفاجئ «تولول» بعده الحكومة وتعلن عزمها نقل هؤلاء الغلابة إلى أماكن آدمية واتخاذ اللازم لحمايتهم، وسط صراخ فقط صراخ الناشطين والسياسيين، على من «تعجن» لحمهم تحت حطام الصخور الصماء التى لا تسمع أنين الغلابة.
تجددت الانهيارات الصخرية بمنطقة الدويقة، مساء يوم الجمعة الماضى، وكأنها أرادت أن ترحم الضعفاء الذين يقطنون تحتها، فدقت ناقوس إنذار.. فهل يسمع نظام الدكتور محمد مرسى وحكومة الدكتور هشام قنديل؟، فقد حدثت شروخ وتصدعات محدودة فى التبة الواقعة أمام شارع أمير المؤمنين بمنطقة 2، وفى اليوم التالى مباشرة صدر قرار إخلاء المنطقة بكاملها من السكان.
القرار صدر على «أوراق» تنام مستريحة الضمير فى مكتب رئيس الحى، وربما لن تخرج إلى حيذ التنفيذ، لأن السكان الذين يعانون محدودية الدخل، عجزوا عن تنفيذ الإخلاء، لأنهم ببساطة بلا مأوى آخر، وليس أمامهم سوى الصخور حتى لو كانت هتسقط على رؤوسهم فالموت أرحم من البقاء فى العراء.
«الشروق» قررت رصد معاناة أهالى المنطقة لعل حكومة الدكتور قنديل تنظر لهم نظرة إنسان مسئول إلى إنسان لا حول ولا قوة له، يواجه الموت المحقق فى كل لحظة...
من فوق العمارات العالية المحيطة بالمنطقة يظهر جبل صخرى تعلوه البيوت والعشش الفقيرة الهشة، وكلما تقترب تظهر ملامح الحياة هناك أكثر بؤسا وابتعادا عن الخدمات.. حجرات لا تزيد مساحتها على 6 أمتار، يعيش فى داخلها أسر لا يقل عدد أفرادها عن 5 أشخاص، فى كثير من الأحيان.
وبين البيوت أزقة ضيقة تربط «التبة» ببعضها.. تصعد مع الأزقة للأعلى، حتى تنتهى بالوصول إلى قمة الجبل، وهناك لا يخلو بيت تقريبا من الشروخ والتصدعات.
أم أحمد، إحدى ساكنات الدويقة، يائسة من تحرك المسئولين تقول، «الخوف بقى قريب منا.. عشنا هنا وهنموت هنا، انقلونا أو سيبونا فى حالنا معادش يفرق»، فيرد عليها عرابى درويش، عامل يومية، بقوله «من حقنا أن نعيش حياة كريمة، ولكن المسئولين لا يهتمون إلا بعد موت أهالينا وجيراننا، فهل يجب أن ننتظر الموت كى ينقذنا من عذابنا».
أهالى الدويقة يعانون من نقص حاد فى الخدمات الأساسية.. فلا مياه نظيفة أوصرف صحى أوكهرباء.. «نعيش حياة الذل.. فلا كهرباء ولا صرف.. ونشترى المياه الملوثة بالجراكن من المناطق المحيطة، ونقبل بأن نرحل إذا توفر أى سكن بديل»، الكلام لعم درويش أحمد، الذى يعمل مسحراتى بمنطقة الحسين، وله 6 أبناء.
ورصدت «الشروق» تغير ملامح المكان، بعد ثورة 25 يناير، فقد أصبح ملجأ للهاربين من السجون والمسجلين خطر، يختبئون فى العشش وبين الصخور، ويرهبون الأهالى الذين يشكون كل يوم وليلة ل«الشرطة» من بلطجة هؤلاء، دون إجابة.
المنطقة لا يمكن أن يعيش فيها البشر إذ كانت الدولة تحترمهم أو النظام الحاكم الذى يدعى دائما أنه جاء لإعلاء كرامة الإنسان التى كانت مهدرة طوال العهود السابقة، يريد فعلا وبحق أن ينتصر لإنسانية هؤلاء الغلابة وغيرهم الكثيرىن.. فهنا لا يعانى الأهالى الفقر والمرض والبلطجة فقط إنما «العقارب والحيات» تسكن الشقوق وتتحين الفرصة لمص دم الفقراء هنا، ومنهم أم مصطفى التى تقول إنها «تعيش هى وأبناؤها حياة غير آمنة، بعد أن لدغ ابنتها عقرب ولولا رحمة الله لكانت فارقت الحياة»، وتضيف «نعانى البلطجة وخطورة المكان فى كل وقت».
إسماعيل محمد من أهل المنطقة يلخص تاريخه مع المنطقة وهو يقول «أعيش هنا منذ 30 عاما، بعد أن كانت منطقة للجيش، ثم تخلى عنها، وبدأنا نعيش فيها وجاء الكثير من أهل الصعيد وبنوا بيوتا، ولم يلتفت لنا أحد حتى وقعت الصخرة على رؤوسنا فى 2008، وظهر وقتها المسئولون لأول مرة بالمنطقة، وأكدوا لنا أن حياتنا ستتغير، ولكنهم لم يعودوا أبدا، وحياتنا لم تتغير».
المحافظة: الأهالى يكذبون
وفى المقابل، قال اللواء سيف الإسلام عبدالبارى، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية: إن «الأهالى يدعون كذبا أن جزءا من صخرة الدويقة على وشك الانهيار للحصول على وحدات سكنية بديلة»، مضيفا أن «الأهالى توجهوا إلى مقر قسم الشرطة وتجمهروا أمامه بحجة أن صخرة الدويقة تحركت وسمعوا أصوات طقطقة وفرقعة فى الصخور مما يدل على احتمال انهيارها فوق رؤوسهم».
وأكد نائب المحافظ إنه «تم إبعاد الأهالى عن بيوتهم للتعامل مع البلاغ بجدية لحين كشف اللجنة الجيولوجية على الهضبة ووضع تقرير بالمستجدات، إلا أن قرار اللجنة أكد أن الصخور لم تتحرك ولم يحدث بها أية تغييرات أو شروخ وفق حديث الأهالى، وأن وضع الهضبة كما هو منذ 2009». واعتبر نائب المحافظ البلاغات المقدمة أنها «بلاغات كاذبة لتجبر المحافظة على نقل الأهالى إلى وحدات سكنية جديدة دون التأكد من أحقيتهم، خاصة بعدما تردد بين الأهالى أن المحافظة تقوم بحصر الأهالى المستحقين والمقيمين بالمناطق ذات الخطورة الداهمة». ومن جانبه، أكد الدكتور مصطفى القاضى، عضو لجنة الكشف عن هضبة الدويقة أن «الهضبة ليس بها شروخ أو تصدعات جديدة، وأن تقرير اللجنة لم يحدث به تغيير منذ عام 2009، إلا أن نسبة البيوت الخشبية والخرسانية والعشش زادت بنسبة 70% تقريبا حتى بعد نقل عدد كبير وإزالة عدد من المنازل التى تقع تحت بند الخطورة الداهمة».
وقال القاضى:« إن عددا من الأهالى أبلغوا اللجنة عن محاولة بعض الأسر لعمل شروخ بالصخرة أو تحريكها لإجبار المحافظة على تسليمهم وحدات سكنية إلا أن الصخرة لم تتأثر لأن الصخور لها جذور فى الأرض».
وأعلن القاضى أن «أعضاء اللجنة ترى أن عمليات الحصر وتوافد السكان الجدد يحول دون تقدم المراحل التالية لإزالة المناطق الخطرة».
وأضاف« أن عددا من الأهالى الذين تم نقلهم وتسليمهم وحدات سكنية بمنطقة المساكن الجديدة المعروفة بسوزان مبارك قاموا بتحويلها إلى محال تجارية، وباعوها بالغرفة وعادوا مرة أخرى إلى أماكنهم القديمة قبل الإزالة».