بلا إطناب أكاديمى عن مناهج تحليل السياسة الخارجية وطرق البحث فيها ربما يخرج عن سياق مقال يحكمه حيز محدود. أجدنى أقرر بداية أن السياسة الخارجية هى رؤية النخبة المعنية بصنع السياسة لمحصلة التفاعل بين خصائص المكان وخصائص السكان، بين الجغرافيا والطبوغرافيا والمناخ من ناحية وبين التاريخ والثقافة والديمجرافيا من ناحية أخرى. وعبر التاريخ الطويل لبلادنا كانت هذه العوامل تتفاعل فيما بينها لتصوغ لمصر، حتى قبل أن يتبلور الشكل الحديث «للدولة القومية» منتصف القرن السابع عشرسياسة خارجية أبرز ملامحها تكافل فريد بين مصر وبين بيئتها الإقليمية ولتفرض عليها مسئوليات خاصة فى تحقيق الأمن والاستقرار لمنطقتها، وكانت مصر توظف لهذا الدور عبقرية موقعها وقواتها المسلحة وقدراتها الدبلوماسية وطاقات الإبداع العلمى والثقافى لشعبها. ومواردها الطبيعية والجهد الوفير لأبنائها، وعلى امتداد أرض مصر وما حولها تنتشر شواهد باقية تؤرخ لهذا الدور منذ آلاف السنين عندما كانت مصر حاضرة الشرق التى تترامى البادية حولها فى كل اتجاه، من بين تلك الشواهد أذكر معبد الدير البحرى فى الأقصر الذى يسجل قبل خمسة وثلاثين قرنا أقدم نتائج مسجلة لبعثة للاستكشاف الجغرافى والعلمى فى التاريخ، وهى التى أوفدتها الملكة حتشبسوت إلى شواطئ شرق أفريقيا، واللوحة المثبتة فى حوائط الكرنك لتنقل إلينا نصوص أول معاهدة سلام فى التاريخ التى أبرمها رمسيس الثانى قبل نحو ثلاثة وثلاثين قرنا مع ملك الحيثيين الذين كانوا يعيشون فى الشام وآسيا الصغرى، وآثارا أخرى عديدة على الأرض وجدران المعابد تشير إلى الجهد الذى كان المصريون القدماء يبذلونه بدأب لتعقب مسار النيل وتحديد منابعه وفهم دورة فيضانه وترويضه، وقد ظلت فصول هذا الدور الإقليمى لمصر تتلاحق تنويعات أكثر لمعانا أو أقل، بفعل الكشوفات الجغرافية والمستحدثات التكنولوجية واتجاهات حركة التجارة العالمية.
من أيام الفراعنة إلى اليونان والرومان، فالعرب ثم الدول الإسلامية التى تعاقبت على حكمها، إلى العصر الحديث عندما أدرك نابليون ببصيرته الاستراتيجية النافذة قدر مصر وأوضاعها الإقليمية الحاكمة، إلى محمد على مؤسس مصر الحديثة الذى لم تتلقَ إدارته للعلاقات الخارجية للبلاد ما تستحقه من اهتمام، ليأتى افتتاح قناة السويس للملاحة فى 1869 استثمارا لموقع مصر الجغرافى العبقرى وتعظيما للاعتبارات الأمنية والاستراتيجية التى تتعلق بها على نحو يجاوز نطاقها الإقليمى المباشر. صفحات كثيرة من التاريخ المعاصر لمصر والمنطقة تتحدث عن الدور الإقليمى لمصر: تأسيس الجامعة العربية نصرة القضية الفلسطينية مساندة حركات التحرير الوطنى وتصفية الاستعمار فى أفريقيا والعالم العربى القوات المسلحة والدبلوماسية المصريتين فى خدمة الأممالمتحدة تارة وفى صدارة العمل العربى والدولى الجماعى تارة أخرى فى الكويت وفى الصومال، وفى الكونغو وشمال أفريقيا ووسطها وفى السودان ولبنان والعراق، فى بترول الخليج يصل إلى أسواقه الأوروبية عبر قناة السويس وخط أنابيب سوميد، فى مئات الألوف من المصريين يعملون فى تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى البلدان العربية، فى المنتج الفكرى والفنى والإعلامى المصرى يشكل الجانب الأعظم من الانتاج والاستهلاك الثقافى للناطقين بالعربية، وفى مرارة الانكسار وفى حلاوة الانتصار الوطنى والقومى.
•••
التحولات الجوهرية التى جرت فى أوروبا والعالم أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين، وفيها افتضح إفلاس النظرية الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفييتى ومن ثم سقط النظام الدولى ثنائى القطب واختفى المفهوم التقليدى لفكرة «العدو»، وهى التحولات التى واكبت ثورة عارمة فى تكنولوجيا القتال والاتصال والانتقال والتشخيص والتداوى وتداول وتحليل وحفظ المعلومات، أنشأت أوضاعا وتحديات جديدة أمام المشتغلين بالسياسة الخارجية فى كل دول العالم ومصر خاصة. تآكلت مناعة الحدود وتنامت حركة البشر عبرها بشكل غير مسبوق، يتناقلون معهم أفكارا ورؤى، وأيضا أمراضا وبائية تصيب الإنسان والحيوان والنبات، تزايد الناس وتنامى الاقتصادات أدى إلى ارتفاع وتيرة التلوث الذى يصيب البيئة وازدياد الضغط على الموارد الطبيعية التى تسارع معدل استنزافها.
إنتاج وتهريب المخدرات أصبح مهنة مربحة تحميها جيوش وتتستر عليها حكومات وخطرا يتهدد المجتمعات فى أغلى أرصدتها: الشباب. غسيل الأموال الناجمة عن ممارسات الجريمة المنظمة والأشكال الجديدة لهذه الجريمة: الاتجار فى الأعضاء البشرية وتجارة البشر وتهريب المواد النووية، وأيضا المنتجات مزدوجة الاستخدام المدنى والحربى أصبح يمثل أرقاما فلكية ومخاطر فادحة، التجارة غير المشروعة فى السلاح وانتشار أسلحة الدمار الشامل واستفحال الظاهرة الإرهابية والادعاء بحتمية الصدام بين الحضارات، تنامى الاقتصاد الرمزى المتمثل فى تجارة الأموال وأشباه النقود فى مقابل الاقتصاد الحقيقى: تجارة السلع والخدمات، تراجع القانون الدولى التقليدى، لصالح قانون دولى بازغ للبيئة والتجارة والبحار والأنهار العابرة للحدود والفضاء وضبط التسلح: تُطوع الشرعية فيه لمقاسات وهوى القوة. التطورات السكانية حول العالم بين تآكل ديمجرافى متسارع لليابان وأكثر دول أوروبا الغربية وروسيا الاتحادية، وانفجار سكانى فى أفريقيا، وبعض دول آسيا وما يصاحب هذا، وذاك من توترات وتحركات للبشر عبر الحدود بشكل نظامى أو غير نظامى، كلها موضوعات اهتمام جديدة للسياسة الخارجية لدول العالم كافة ومصر خاصة، ويفرض بعضها تحديات وتهديدات فادحة للأمن القومى.
•••
تداعيات التطورات الإقليمية والدولية، وموقف «العزوف المتدبر» عن أخذ المبادأة والانكفاء على الذات والجمود بدعوى الحفاظ على الاستقرار والاهدار المتواصل لعناصر القوة الناعمة لمصر، أخرج السياسة الخارجية لمصر عن سياقها الطبيعى، وضرب نفوذها الإقليمى: 1979 كانت سنة مفصلية فى هذا الصدد، بدأت بمشهد الإمام الخومينى يهبط فى مطار طهران فى عودة ظافرة أول فبراير ليتوج اختطاف المؤسسة الدينية الشيعية لثورة الشعب الإيرانى، ومن ثم إطلاق «الثورة الإسلامية» فى إيران التى لا تتورع عن استخدام كل الوسائل بما فيها العنف لتصدير الثورة، وانتهت فى ديسمبر بعبور القوات السوفييتية للحدود مع أفغانستان لنصرة النظام الشيوعى الحاكم فى كابول لتنطلق تحت بصر الولاياتالمتحدة وربما برعايتها موجة من الإرهاب الذى يرفع الشعارات الإسلامية ويستخدم أموال الاتجار فى المخدرات لشراء السلاح الذى يستعمله «المجاهدون» ضد السوفييت.. ويتراجع البعد الإسلامى للعمل الدبلوماسى المصرى فى وقت كان يلزم فيه أن يصلب قامته ويشد عوده. فى 26 مارس من نفس السنة توقع معاهدة السلام بين مصر وبين إسرائيل، فتُفرض المقاطعة العربية على مصر باستثناء الصومال والسودان وسلطنة عمان ويُنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة، وتستمر هذه المقاطعة التى كانت بمثابة «تعليق للدور الإقليمى لمصر» عشر سنوات كاملة. فى يونيو 1995 تقع محاولة اغتيال الرئيس السابق فى أديس أبابا، فيقاطع هذا اجتماعات القمة الأفريقية، المؤسسة الرئيسية للعمل الجماعى القارى مادام كانت تنعقد فى عواصم جنوبى القارة (اللهم إلا من قمة أبوجا التى جاءت بعد عشر سنوات أخرى) وتنزوى أفريقيا على اهتمامات الدبلوماسية المصرية. وبالإضافة إلى هذه التطورات التى عصفت بدوائر الأسبقية الرئيسية للفعل الدبلوماسى المصرى منذ أن قرأها عبدالناصر فى كتابه فلسفة الثورة، جاء تفكك الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر 1991 واختفاء النظام ثنائى القطب، ليسلب المبرر لفلسفة عدم الانحياز ويفاقم من أزمة الهوية للسياسة الخارجية المصرية، وإن بقيت حركة عدم الانحياز كمحفل تجتمع دولها فى كنفه لتتعارف وتنسق مواقفها فى شأن الموضوعات الدولية المستجدة والقضايا المزمنة ذات الاهتمام المشترك.
•••
القوة الناعمة، وهى «قدرة أى دولة على تحقيق مصالحها فى مجتمع الدول دون الحاجة إلى دفع المقابل أو اللجوء إلى الإكراه»، كان لمصر من عناصرها الكثير: الأزهر قلعة الوسطية فى عالم المسلمين وقبلة الراغبين فى معرفة صحيح الدين، الكنيسة الأرثوذكسية التى رعت تاريخيا نشر المسيحية فى شرق أفريقيا، جامعة القاهرة التى كانت تُخرج المثقفين فى بلدان العروبة وافريقيا والعالم الإسلامى، قصر العينى الذى كان مشفى الناس فى محيط مصر العربى والأفريقى، كل هذا وغيره أدى عدم الإدراك والعسف والإهمال إلى إهدار قيمته وإحباط فعله.
لم يعد من ثم غريبا أن تنشط «دول صغرى» فى صياغة التسويات، ووضع الترتيبات الإقليمية لملء فراغ موحش نشأ بغياب مصر، التى أخذت تتفرج مكترثة حينا وبلا اكتراث أغلب الأحيان.
•••
النظرية الجديدة للسياسة الخارجية لمصر التى لابد أن تكون حصيلة عمل جماعى متأن، لا يمكن أن تقتلع مصر من جوارها الإقليمى ومؤهلات فعلها الدبلوماسى فى المنطقة العربية والعالم الإسلامى وأفريقيا وإنما ستوظف فى خدمة هذا الفعل كل عناصر القوة الشاملة لمصر، وستضيف بعدا جوهريا يصلها بالعالم المتقدم إلى الشمال هو البعد الأورومتوسطى، وستضع قائمة بالإشكاليات المستجدة من اهتمامات الدبلوماسية العالمية التى أتينا على ذكر بعضها لتصنع مواقف وطنية إزاءها يشارك فى صياغتها كل مؤسسات المجتمع المصرى المعنية، وزارة الخارجية المصرية التى يحتشد فيها أفضل كوادر الدولة المصرية ستكون الجهاز الرئيسى الذى يقوم على تنفيذ السياسة الخارجية، ولن يُجتزأ من واجباتها أو تُختلس ملفات من ملفات اهتمامها، ولكنه سيتعين عليها أن تقبل وتتفاعل مع مشاركة آليات مستجدة لم تتعودها البيروقراطية المصرية فى العهد السابق: برلمان فاعل ورأى عام حقيقى. الأهداف التى تحددها النخبة فى الداخل ستكون ملهما للأهداف الدبلوماسية فى الخارج: هدف «العمالة الكاملة» لابد أن ينعكس فى سياسة نشيطة لتوفير فرص عمل حقيقية ومجدية فى الخارج، تحقيق الأمن المائى لمصر سيتطلب إعمالا حقيقيا «للدبلوماسية الكاملة»فى حوض النيل التى يشارك فى دعم «الرسمية» فيها القطاع الخاص والأهلى، الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فى مصر، ستستدعى إبداعا دبلوماسيا فى رعاية المصريين فى الخارج وتسهيل تواصلهم مع الوطن. الاتجاهات من حيث يأتى النفع التجارى واجتذاب الاستثمار والسياحة ستوجه بوصلة اهتمام الدبلوماسية المصرية التى لابد أن يُترجم أداؤها فى أرقام تحكمها حسابات الجدوى والتكلفة. خريطة التمثيل الدبلوماسى وتوزيع الكوادر البشرية فى الخارج ستكون محلا لمراجعة شاملة ومستمرة، هيكلة وزارة الخارجية نفسها ينبغى أن تكون موضعا للتدبر لتلافى جوانب القصور وبواطن الفساد. نظم التدريب وبناء القدرات للدبلوماسيين ومعاونيهم لابد أن تحظى بأعظم الاهتمام وأن يكون عملها مستمرا يقع الكل فى متناوله بصرف النظر عن رتبهم وأعمارهم.