أول أيام العام الدراسي.. محافظ الغربية يتفقد مدارس طنطا ويوجه الشكر لمديرية التعليم    النيابة العامة تخلي سبيل صلاح التيجاني بكفالة مالية    محافظ المنوفية يعلن طرح 12 مدرسة جديدة للتعليم الأساسي والإعدادي والثانوي    مفتي الجمهورية: الحوار بديل فعال للصراع والنزاع العالمي    مجلس الوزراء: خطوات هامة وبدايات مبشرة لصناديق الاستثمار المصرية في الذهب    «النقل الدولي»: تأسيس مركز عالمي لصيانة السفن يدعم توطين الصناعة محليا    مؤشر الذهب العالمى يسجل مستوى تاريخيا، الأونصة وصلت لهذا السعر    لحوم مجمدة بسعر 195 جنيها للكيلو في منافذ المجمعات الاستهلاكية    وصول آلاف السياح إلى الغردقة ومرسى علم في آخر أيام الصيف    «القاهرة الإخبارية»: 60 مصابا من المدنيين بسبب الغارة الإسرائيلية على بيروت    وزير الداخلية اللبناني: انعقاد دائم لمجلس الأمن الداخلي لمواجهة اختراقات الاحتلال الإسرائيلي    الناخبون في التشيك يواصلون التصويت لليوم الثاني في انتخابات مجلس الشيوخ والمجالس الإقليمية    بمناسبة يوم السلام العالمي، مصر تكشف دورها الريادي في تحقيق الاستقرار إقليميًا وعالميًا    التشكيل المتوقع للمصري في مواجهة الهلال الليبي بالكونفدرالية    السيسي يوجه بتحجيم المشاركة في الألعاب التي لا تتمتع مصر فيها بميزة تنافسية    توجيهات رئاسية لمحاسبة الاتحادات المشاركة في أولمبياد باريس    حاول شنقها بدافع السرقة، كشف غموض التعدي على مسنة داخل منزلها بالغربية    انتظام الدراسة في المعاهد الأزهرية.. جولة لرئيس القطاع في الأقصر.. وتعليمات بسرعة تسليم الكتب والمشاركة في مبادرة بداية (صور)    بمختلف المحافظات.. رفع 46 سيارة ودراجة نارية متهالكة    إخلاء سبيل صلاح التيجاني بكفالة 50 ألف جنيه    مهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابي يعلن قوائم لجنة المشاهدة بالدورة التاسعة    عمرو الفقي: تحية لفريق عمل والقائمين على مسلسل برغم القانون    الرعاية الصحية بالإسماعيلية: «بداية» خارطة طريق لبناء مواطنين أصحاء نفسيا وبدنيا وفكريا    وزير الصحة يلتقي السفير المصري بالهند لبحث سبل التعاون المشترك    ضمن مبادرة «بداية جديدة».. تقديم العلاج لكبار السن بالمنازل في الشرقية    توجيهات عاجلة من مدبولي ورسائل طمأنة من الصحة.. ما قصة حالات التسمم في أسوان؟    موعد مباراة ريال مدريد وريال سوسيداد والقنوات الناقلة في الدوري الإسباني    المشاط تبحث تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع الوكالة الفرنسية للتنمية    انطلاقة قوية لمواليد برج الأسد في بداية الشهر الشمسي الجديد    القصة الكاملة لشائعة وفاة محمد جمعة.. ما علاقة صلاح عبد الله؟    داعية إسلامي: يوضح حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين وطلب المدد منهم    صور| "بالجلباب والطربوش".. المعاهد الأزهرية تستقبل الطلاب في أول أيام الدراسة بقنا    واتكينز ينهي مخاوف إيمري أمام ولفرهامبتون    اليوم .. منتخب مصر يواجه أمريكا في نهائي بطولة العالم للكراسي المتحركة لليد    مستشفيات جامعة سوهاج تنهي قوائم الانتظار بنسبة 98 ٪؜    في يوم السلام العالمي| رسالة مهمة من مصر بشأن قطاع غزة    تقرير أمريكي: بلينكن لم يزر إسرائيل بجولته الأخيرة خشية تقويضها لجهود الوساطة    «اللي بيحصل يهد ريال مدريد».. رسالة نارية من ميدو ل جمهور الزمالك قبل السوبر الإفريقي    شيخ الأزهر يعزي اللواء محمود توفيق وزير الداخلية في وفاة والدته    زاهي حواس: مصر مليئة بالاكتشافات الأثرية وحركة الأفروسنتريك تسعى لتشويه الحقائق    بسمة بوسيل تنشر إطلالة جريئة لها.. وتغلق التعليقات (صور)    انتظام الدراسة في أول أيام «العام الجديد» بقنا (تفاصيل)    عالم بوزارة الأوقاف يوجه نصائح للطلاب والمعلمين مع بدء العام الدراسي الجديد    رواتب تصل ل25 ألف جنيه.. فرص عمل في مشروع محطة الضبعة النووية - رابط التقديم    وزير الإسكان: تخفيض 50% من رسوم التنازل عن الوحدات والأراضي بالمدن الجديدة    بعد ارتفاع الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 21 سبتمبر 2024 في المصانع    «الداخلية» تكشف ملابسات فيديو اعتداء شخص على سيدة في القاهرة    بدء العام الدراسي الجديد.. ما هي خطة وزارة الصحة لتأمين للمنشآت التعليمية؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    «اعرف واجبك من أول يوم».. الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية ل رابعة ابتدائي 2024 (تفاصيل)    انخفاض جديد في درجات الحرارة.. الأرصاد تزف بشرى سارة لمحبي الشتاء    وزير خارجية لبنان: لا يمكن السماح لإسرائيل الاستمرار في الإفلات من العقاب    لطيفة: أمي قادتني للنجاح قبل وفاتها l حوار    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    الزمالك يُعلن طبيعة إصابة مصطفى شلبي ودونجا قبل مواجهة الأهلي في السوبر الأفريقي    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    ضحايا جدد.. النيابة تستمع لأقوال سيدتين يتهمن "التيجاني" بالتحرش بهن في "الزاوية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو الغيط يتحدث عن سياسة مصر الخارجية بين 1984 و2011فى مقالات بعنوان أوراق الخارجية:حتى لا تتكرر الأخطاء القاتلة.. ويرصد الحديث عن ضعف دور القاهرة والخلط بين السياسة الخارجية والدبلوماسية المنفذة لها
نشر في اليوم السابع يوم 25 - 08 - 2012

تولى أحمد أبو الغيط، وهو دبلوماسى محترف تدرج فى سلك الخارجية المصرية، حقيبة وزارة الخارجية فى فترة مليئة بالأحداث والتقلبات منذ يوليو 2004 حتى مارس 2011، أى بعد ثورة 25 يناير بفترة قصيرة، وخلال مسيرته، اطلع على كثير من الملفات من خلال المناصب التى تولاها، وبينها مندوب مصر لدى الأمم المتحدة. ومنذ خروجه من الحكومة ومطبخ السياسة الخارجية، بحكم دخول مصر فى عهد جديد، ظل صامتا تقريبا.
وفى 6 مقالات تبدأ نشرها «الشرق الأوسط» اعتبارا من اليوم، يقدم أحمد أبو الغيط رؤيته حول مرتكزات السياسة الخارجية المصرية؛ أسبابها ودوافعها والظروف التى دفعت إلى اتخاذ بعض القرارات والسياسات والعوامل التى تحكم صاحب القرار فيما يتعلق بالسياسة الخارجية المصرية.
كثر الحديث خلال السنوات الأخيرة قبل 25 يناير 2011، وبالتأكيد زاد بعد هذا التاريخ، عن اضمحلال الدور المصرى على مستوى الشرق الأوسط، بل والعالم، وأخذ بعض كتاب الرأى وأساتذة الجامعات على مدى هذه السنوات يتناولون بالتعليق السياسة الخارجية المصرية، مع كثير من الخلط بين السياسة الخارجية والدبلوماسية المنفذة لها، وتركزت الكتابات على ما قدره البعض ب«كمون» الدور المصرى وعدم تحمل مصر لمسؤولياتها مثلما يفرضها الموقع المصرى فى هذه المنطقة الحيوية من العالم، وتحدث البعض الآخر عن انحسار مصر وأخذ يلقى بالتالى على السياسة الخارجية المصرية كل إخفاقات العالم العربي، بل الإسلامي، وأخذ الكثيرون يقولون إن مصر كُسرت بتوقيعها إطارات السلام المسماة بإطارات كامب ديفيد فى سبتمبر 1978 فى واشنطن، وإنها بالتالى أصبحت تابعة للسياسات الأميركية والإسرائيلية فى المنطقة، ودعت كل هذه الآراء مصر بأن ترفض القيود التى تفرض ثقلها عليها وأن تعود إلى حركتها الدؤوبة للدفاع عن إقليمها، وأن تعمل وبسرعة على نقل مفاهيم ثورتها إلى بقية الإقليم لكى تستعيد دورها وفاعليتها، وفى كل ذلك لم يقتصر أمر الانتقادات على السنوات الأخيرة فقط من فترة حكم الرئيس السابق حسنى مبارك، بل امتد إلى كل فترة رئاسته وتجاوزها إلى سنوات حكم الرئيس السادات، وأخذ الحديث يدور حول استعادة الدور وفرض السطوة المصرية والعمل على إنقاذ العرب والمنطقة، بل والإسلام من العثرات التى تواجهنا، وكانت الدعوة تدور حول ضرورة قيام السياسة الخارجية المصرية بلعب تأثيرها التاريخى المطلوب والخروج بمصر سريعا، بل وفورا إلى منطقتها وإقليمها حاملة رسالة الثورة وبهدف تأمين مستقبلها (أى الثورة) ومستقبل المنطقة التى هى مسؤوليتنا.
واستشعرت القلق مما أخذت أقرأه وأطلع عليه فى هذه الكتابات خشية أن تعود مصر إلى تكرار أخطاء قاتلة على مدى قرنين من الزمان نجحت خلالهما فى الخروج إلى منطقتها وجوارها، فبنت الإمبراطورية، وإن كانت قد سقطت تحت الاحتلال البريطاني، ثم عاودت الكرة، وتحملت المسؤولية ولعبت تأثيرها ودورها، وحصلت على الاعتراف الدولى والإقليمى بأهميتها، ثم وقعت فى براثن هزائم عسكرية واحتلال أراض لها فى سيناء.
وأملى هنا أن لا أُفهم خطأ أو كأننى أتبنى رؤية انكماشية لمصر المنطلقة فى منطقتها وعلى مستوى العالم، أو أننى أرفض دورا لمصر أو أقلل من شأن تاريخنا الممتد فى هذا الإقليم الواصل من وسط القارة الأفريقية ومدخل باب المندب فى البحر الأحمر وسواحل الصومال فى الجنوب إلى مياه الخليج العربى وبحر العرب فى الشرق، بما يشمل ذلك من الساحة الإسلامية فى منطقة الهضبة الإيرانية وأواسط آسيا، أو العلاقات والاهتمامات المصرية التقليدية فى مناطق الجوار المباشر، وهو الجوار ذو التأثير الحيوى على المصالح المصرية المستقرة على مدى ما يقرب من 4 إلى 5 آلاف عاما من التاريخ المصري، وأقصد بذلك منطقة فلسطين وسوريا، وصولا إلى الأناضول وآسيا الصغرى، من هنا وبطبيعة الحال فإننى وإن كنت أتحمس لدور وفاعلية وتأثير لمصر وسياستها الخارجية فى هذا الإقليم وعلى مستوى العالم، فإن تحسبى ينطلق من الخشية، مثلما قلت، من تكرار أخطاء سابقة يكون لها عواقبها على مستقبلها، من حيث التعجل للخروج برسالتها دون الإعداد والتجهيز اللازمين، أو استفزاز قوى خارجية تتربص بمصر والإقليم، أو أخطاء الحساب تجاه أطراف إقليمية من المفترض أن الجهد المصرى يستهدف خدمتها فى إطار قومى و/ أو ثقافى إسلامى عريض.
من هنا، وفى مواجهة هذه الكتابات التى تطالب بالتصدى والتحدى وتأخذ المنهج الإيرانى للسياسة الخارجية أسلوبا رأيت أنه قد يكون من المناسب أن أكتب عدة مقالات من جانبى أطرح فيها رؤية مقابلة لهذه الكتابات التى أشرت إليها، لعلى أساهم فى التوصل إلى وفاق مصرى عريض بشأن السياسة الخارجية المصرية وأولوياتها، من هنا أيضا قدرت أهمية التطرق إلى التجربة المصرية فى السياسة الخارجية والتفاعل مع إقليم الشرق الأوسط وأحداثه والقوى الكبرى ذات التأثير فى أوضاعه فى إطار زمنى ممتد، وهو ما أنتوى التطرق إليه فى هذا المقال الأول، ثم أحاول فى المقالين التاليين أن أتناول الظروف التى وجدت مصر نفسها فيها بعد هزيمة 67، والحاجة للعمل الدبلوماسى النشط ثم المواجهة العسكرية الصعبة وما تبعها من جهد سياسى وعسكرى للتوصل إلى استعادة أراضى مصر فى سيناء، وهنا ستكون الصراحة والصدق الصفتين اللتين ينبغى التمسك بهما وصولا إلى حقائق كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، والظروف الصعبة التى أوصلت مصر إليها، وفى المقال الرابع سوف أحاول مناقشة مفهوم تسويات كامب ديفيد وتأثيرها على مكانة مصر ودورها، وحتى نستطيع أن نحكم بموضوعية وحساب صحيح على الأعوام ال40 الأخيرة بشأن السياسة الخارجية المصرية، وأخيرا أنهى هذه السلسلة من المقالات بمقالين يتطرقان إلى المؤسسات المصرية العاملة فى حقل السياسة الخارجية فى ظل حكم 3 رؤساء مصريين، وأخيرا توصياتى للسياسة الخارجية المصرية، ومؤسساتها فى أعقاب 25 يناير 2011. وسوف يلاحظ القارئ الكريم أننى أحث صاحب القرار اليوم على أن يتدبر، ويقيس، ويزن الأمور والمنطلقات بأكبر قدر من الدقة والتدقيق حتى لا تضع مصر نفسها، مرة أخرى، فى مواضع تؤثر عليها بشكل بالغ فى سلبيته أو انعكاساته على مستقبل هذا الوطن الذى يشهد التاريخ بديمومة تأثيره ورسالته الإنسانية والسلمية.
وفى كتابتى لهذه الكلمات أقول إن على صاحب القرار المصرى اليوم أن يعمل على إشراك نخب المجتمع المصرى بكل توجهاتها، وربما تناقضاتها، للاتفاق على رؤية محددة لما يمكن، أو يجب القيام به، والأهداف المطلوب تحقيقها، ومدى قدرة المجتمع المصرى فى تحقيقها دون مبالغة أو ادعاء.
وينبغى أن ندرس مليا وبعمق الأوضاع الإقليمية والدولية فى عالم اليوم، ومن هم أصدقاؤنا وخصومنا الحاليون أو المحتملون، كما يجب أن ندرس كل عثراتنا فى تاريخنا الحديث؛ سواء مع بداية الدولة الحديثة وعصر محمد علي، أو ربما مع على بك الكبير فى الربع الأخير من القرن ال18.
ومن المؤكد أيضا أنه من الأهمية بمكان أن نتعمق بصدق، وبكل صراحة وإخلاص فى دراسة أخطائنا الكثيرة فى إدارتنا للصراع مع إسرائيل، خاصة أثناء حرب فلسطين الأولى فى عامى 1948 و1949، أو سلسلة الحروب التالية فى أعوام 1956 و1957 وأخيرا فى معركة 1973.
لقد حاربت مصر فى معارك كثيرة على مدى قرنين، وكان لها انتصارات، ولكن أيضا هزائم وانكسارات، وفقدت مصر خلال هذه المعارك أجيالا من شبابها، ونخبا دفعت ثمن الهزائم.
من هنا وجبت النصيحة، وقول الصدق، والمعالجة الصريحة لكل المسائل والمشكلات حتى لا نكرر الأخطاء، وحتى نحقق أهدافنا المتفق عليها بما يصون بلادنا من شرور من لا يرغب لنا بالخير.
يستدعينى هذا النقاش إلى محاولة تناول تفصيلى لبعض المسائل المرتبطة بالدور المصري، والفاعلية، فى هذا الإقليم، وحتى نستخلص الدروس والعبر ونحصن أنفسنا من أى خطأ فى المستقبل عندما نتحرك، مثلما يفرضه علينا تاريخنا وقدرنا، نحو تحقيق خدمة إقليمنا وتأكيد قيمتنا فى خدمة قضايا أمتنا العربية والإسلامية.
أولا: وقد يكون من المهم، بل والضرورى فى هذا المجال، استرجاع التجربة المصرية لدى محمد على باشا، بل وأيضا على بك الكبير فى نهايات القرن ال18 والأعوام ال40 الأولى من القرن التاسع عشر، وفى هذا السياق، لا أجد حاجة لتأكيد القول إن حكام مصر تفهموا، وبالذات محمد علي، قيمة مصر وقدراتها وموقعها وشعبها، ومن ثم إمكانية استخدام هذا الموقع المتميز فى التأثير على الإقليم المحيط من خلال بناء دولة حديثة إلى حد بعيد تقوم على أعمدة عصرية للسلطة. وفى سعيه لتحقيق أهدافه، عمل محمد على باشا، مثلما هو معروف لنا جميعا، على توظيف المنافسات الدولية بين القوى الرئيسية فى عالم هذا اليوم لتنفيذ مخططاته، من هنا حاول الاستفادة من فرنسا، القوة البرية الرئيسية المضروبة بعد سقوط نابليون، فى تمكين مصر من التعرف على العلوم الحديثة وبناء القدرات العسكرية والبحرية المصرية، إلا أنه وفى هذا الجهد اصطدم بمخططات القوى الكبرى فى عالم القرن التاسع عشر (بريطانيا العظمى، روسيا القيصرية، إمبراطورية النمسا والمجر، وأخيرا الرجل التركى المريض)، وأجهض المشروع المصرى الذى مثله محمد على باشا، مثلما أفشل مسعى على بك الكبير فى محاولته الفكاك من السيطرة العثمانية ومحاولته الاستفادة من الطموحات والمناورات القيصرية الروسية ضد الباب العالى فى إسطنبول، وصولا إلى المياه الدافئة والانفتاح على البحر الأبيض المتوسط، وكان لبريطانيا، القوة البحرية الأعظم فى ذاك العهد، مسؤوليتها المباشرة فى هزيمة المحاولتين المصريتين على مدى هذين القرنين. لقد سبح جنود مصر فى مياه خليج عدن، وسواحل السودان، وامتدادها فى مناطق إريتريا؛ عصب ومصوع، وظهرت وحدات عسكرية مصرية ليس فقط فى الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، وقد ترك ذلك آثارا بالغة السوء فى النفسية السعودية تجاه أى ظهور مصري، من قريب أو بعيد، فى المشرق فى مستقبل الأيام، ولكن أيضا فى مياه الخليج كتعبير عن سطوة وسلطان هذا الظهور المصري، وكشفت هذه التجربة، فيما كشفته من حقائق، أن القيادة المصرية، وأطلق عليها ذلك مجازا، لأنها كانت فى الحقيقة سلطة الشخص الواحد، لم تحسب بدقة تأثيرات القوى الخارجية الرئيسية فى تصديها من عدمه لتحركاتها تجاه خصومها، أو مناطق جوارها القريب، كما أن الخروج المصرى المتسرع، فى تقديري، قبل استكمال كل عناصر البنيان الداخلى فى إقامة دولة عصرية كاملة المناهج كان له عواقبه على المدى الطويل، وأقصد بذلك، أن محمد على باشا وقد اضطر للإسراع بكشف توجهاته تحت ضغط طلبات الباب العالي، فى تأمين حكم مصر لنفسه ونسله من بعده؛ فقد فشل فى أن يؤمن مسارا يفرض على أبنائه من حكام مصر استمرار العمل الدؤوب من أجل النهضة والتطور وبناء الدولة الحديثة، حتى ولو بمفاهيم وقواعد القرن التاسع عشر، وفى مقدمة ذلك القضاء على الأمية التى كانت تسود بلادنا، حتى وصلت الأمور إلى نتيجة كشفت عنها الإحصائيات فى عام 1952 مع نهاية حكم أسرة محمد علي، أن 80 فى المائة من المصريين كانوا لا يقرأون أو يكتبون، بكل عواقب هذا الوضع الكارثى على قدرة مصر، فى الفترة التالية، على النفاذ برسالتها إلى مجالها الحيوى فى المنطقتين العربية والإسلامية، ولا شك أن الرجل عانى فى أعوامه الأخيرة من تقدم العمر والمرض المزمن مما أضعف قدراته، ويبقى الفشل الآخر لأسرة محمد على فى وقوع مصر فى براثن الاحتلال البريطانى عام 1882 وبقاء بريطانيا بقواتها على أراضينا حتى 18 يونيو (حزيران) 1956.
ثانيا: وفى سياق الاقتراب من التجربة الثانية التى كان لها بصماتها العميقة على البنيان والمجتمع المصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين والعقود التالية، نرصد معركة فلسطين الأولى فى عامى 1948 و1949، وإنشاء دولة إسرائيل بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، وانزلاق مصر فى التصدى لهذا الخطر الإسرائيلى ليس فحسب بسبب استلابه أرض فلسطين العربية، ولكن كذلك لتهديده أراضى مصر بسبب وجود دولة غربية التوجهات والثقافة فى قلب العالم العربى فى المشرق، ودخلت مصر الصدام فى فلسطين دون دراسة أو وعى بما نحن مقدمون عليه وعلاقات القوى والإمكانيات بين الأطراف العربية بقيادة مصر، وإسرائيل المدعومة بإرادات الدول الكبرى (الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، والاتحاد السوفياتي)، وهى قوى «يالتا» التى فصلت فى مستقبل أوروبا والشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهناك كثير مما يمكن أن يقال ويحكى عن عجز الإمكانيات العربية وقصور القدرات بالمقارنة بما كان فى جعبة إسرائيل والقوى الأنجلوسكسونية السوفياتية الداعمة لها، وكان التصميم على هزيمة مصر والعرب والدفاع عن الكيان الإسرائيلى الوليد، ولم نتنبه فى مصر، أو على مستوى العالم العربي، إلى أننا لا نملك قدرات تصنيع سلاحنا المتطور، وهو عجز لا يزال يطاردنا حتى اليوم، وكانت الهزيمة، واخترقت قوات إسرائيل لأول مرة فى تاريخنا أراضى سيناء فى عام 1949 حيث هددت رفح والعريش، وتدخلت بريطانيا، وتوقف الاختراق الأول لأراضينا، وأودت الهزيمة بنخبة مصرية لم تتدبر جيدا فى فهمها لاحتياجات مصر، وهى أساسا متطلبات بناء الإنسان المصرى الجديد ومنظومة القوانين الحاكمة، بحيث يستطيع فور إعداده تنفيذ آمال بلاده فى إقامة الدولة الحديثة بحق، وتحملها لرسالتها الثقافية والاستراتيجية التاريخية، ووقعت الثورة المصرية، وبزغ نجم جمال عبد الناصر، وانطلقت مصر تبحث عن أيام خالدة، وأقول مجازا، تسعى إلى سهل حطين وبئر عين جالوت، وحاولنا التصدى للمخطط الإسرائيلى الغربى فى الهيمنة على المنطقة وضمان استغلال ثرواتها البترولية، وأخذنا نعمل على توظيف الوضع الدولي، مثلما فعلنا إبان على بك الكبير، ومحمد على باشا، المتمثل فى وجود كتلتين كبيرتين متنافستين استخدمنا إحداهما للتأثير على الأخرى، أو ربما فى الحقيقة أنهما استخدمتا مصر كقطعة شطرنج على طاولة كبيرة بمساحة الكرة الأرضية فى تنافسهما الاستقطابى الذى انتهى بانفجار إحداهما، وهى الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتى فى بداية عقد التسعينات من القرن العشرين، ولقد سقطنا فى اللعبة، مثلما سقط محمد على باشا، ولم نتفهم القواعد الحاكمة فى علاقات هذه القوى الكبرى بعضها بعضا، إلا أن الفشل الأكبر كان فى عدم توصلنا إلى فهم عميق للدروس المستفادة من تجربة محمد علي، وكذلك فى تسرعنا للخروج برسالتنا قبل استكمالنا تجهيزاتنا وبناء مجتمعنا، وضاعت فرصة بناء الإنسان المصرى الجديد والدولة الحديثة كاملة الأركان من خلال برنامج شامل ينهى الأمية فى مصر ويضع المجتمع كله على عتبة جاهزة للانطلاق فى كل المجالات.
وأخذت مصر تطرح رسالتها السياسية والاستراتيجية والثقافية، وكان عقابها ضربة 1956 وتمكين الغرب لإسرائيل من اختراق سيناء للمرة الثانية خلال 7 أعوام، وإغلاق قناة السويس، ووقع التناقض بين مواقف الولايات المتحدة من ناحية وكل من فرنسا وبريطانيا من ناحية أخرى، وفرض الانسحاب على إسرائيل من سيناء، وسوف يقول قائل إن الموقف السوفياتى وتهديدات خورشوف سكرتير عام الحزب الشيوعى السوفياتى كان لها تأثيراتها، وأجدنى أعترف بالمساعدة السوفياتية، إلا أن الموقف الأميركى كان هو الحاسم والحاكم فى هذه الأزمة، خاصة أنها وقعت بالتوازى مع أزمة غزو السوفيات للمجر لضرب الانتفاضة الرافضة للشيوعية بهذا البلد، وأدى انتصارنا المعنوي، وربما الاستراتيجى فى معركة 1956، إلى أن أغفلنا التدقيق والفهم لما حدث ولم نعِ الدروس المستفادة من كبوة 1956 عسكريا، وهناك كثير مما يمكن التطرق إليه هنا، بل وقويت شوكتنا فى هذه السنوات وانطلقنا ندفع نحو الدور، والتأثير، والفاعلية، وتحمل مسؤولياتنا التاريخية، فى الوقت الذى كان يجب التركيز فيه على بنائنا الداخلى وتحقيق التوازن فى علاقاتنا الخارجية، ولكى نتمكن، عند الانطلاق، من أن نحقق فعلا آمال أمتنا فينا، واستغرقتنا لعبة الحرب الباردة، ومواجهة الاستعمار والإمبريالية، وتأثير الاستقلال على الشعوب المضطهدة، وهى كلها قضايا مشروعة، وكان يجب القيام بدورنا فيها، إلا أنه شابها شوائب كثيرة، داخلية تتعلق بمصر، وخارجيا، فى علاقات مصر بجوارها القريب ومجالها الحيوي. وسبح الجندى المصرى (مرة أخرى) فى مياه اليمن، وبزغ نجم عبد الناصر وزادت طموحاته، وإن كان قد سقط فى براثن المنافسات العربية والشراك التى زرعها الغرب فى علاقاتنا العربية، وكانت الوحدة المتسرعة مع سوريا تحت ضغط التوجهات العربية القومية لسوريا، إلا أن هذه الوحدة المتسرعة ووجهت بعقبات داخلية سوريا أجهضت فكرة الوحدة، وجاءت ضربة 1967، والاختراق الإسرائيلى الثالث لسيناء كلها، وإغلاق قناة السويس للمرة الثانية فى أقل من 11 عاما، وتوفى الرئيس عبد الناصر وهو يناضل لاسترجاع سيناء أساسا، قبل السعى لاستعادة الحقوق الفلسطينية، وورث الرئيس المصرى الجديد أوضاعا مصرية صعبة، وكان عليه استمرار الإعداد لرد ضربة العدو، وجاء يومنا فى 6 أكتوبر 1973.
ولعل هذا العرض الموجز لتحديات السياسة الخارجية المصرية فى انطلاقاتها وعثراتها على مدى قرنين من الزمان، هو الذى فرض ثقله على تفكيرى فى التحسب والحذر عند قراءتى لدعوى الانطلاق الفورى لمصر إلى مجالها الحيوى لاستعادة تأثيرها والقيام بمسؤولياتها الثورية والتاريخية.
(وسوف أتابع فى مقالة تالية ظروف مصر فى إعدادها وتجهيزها لضربتها العسكرية عبر قناة السويس فى العاشر من رمضان 1973، والأهداف العسكرية والعمل السياسى وصولا إلى قمة كامب ديفيد وإطارات السلام والمعاهدة المصرية - الإسرائيلية، وتأثيراتها على تحور الدور والمسؤولية المصرية فى الشرق الأوسط، لعل ذلك يساهم فى المزيد من التفهم للاعتبارات التى حكمت مواقف مصر منذ أكتوبر 1973، وحتى السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السابق مبارك).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.