فى اليوم الثالث والأربعين من ولايته الرئاسية، تمكن الرئيس محمد مرسى من الإطاحة بالحكم العسكرى بموجب القرارات الجمهورية المعلنة يوم الأحد 12 أغسطس الجارى، والتى ألغى بموجبها الإعلان الدستورى المكمل الصادر فى 17 يونيو الماضى، واستلم السلطة التشريعية، وأحال العسكريين الخمسة الكبار إلى التقاعد، وعين قيادة عامة جديدة للقوات المسلحة. ●●●
وتثير تلك القرارات الثورية عددا من الملاحظات من حيث السياق الذى اتخذت فيه، أبرزها:
أولا: أنها جاءت بعد أسبوع من وقوع اعتداء رفح يوم الأحد 5 أغسطس الجارى، وما تلاه من مهزلة إعاقة السيد الرئيس عن تقدم الجنازة العسكرية والشعبية التى شيعت بها جثامين جنودنا الذين قضوا فى رفح، وما واكب ذلك من دعوات إلى «افتعال» ثورة يوم 24 أغسطس الجارى، لدفع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى الانقلاب على رئيس الجمهورية فى استنساخ باهت لسيناريو ثورة 25 يناير 2011.
ثانيا: أعاد حادث رفح التأكيد على أن انخراط العسكر فى السياسة مرادف لانكشاف الجبهة أمام تكرار الاعتداءات على أرواح جنودنا ومن ثم كرامة الجيش وهيبة الدولة، بدءا من قصف هليكوبتر إسرائيلية لجنودنا فى 18 أغسطس2011 والتى أعقبتها أحداث السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، مرورا بمقتل جنديين مصريين برصاص الجيش الإسرائيلى ليلة الخميس 24 نوفمبر الماضى إبان أحداث محمد محمود.
ثالثا: تسبب هجوم رفح فى تبادل الاتهامات بالمسئولية عن الحادث داخل المنظومة الأمنية المصرية بمضمونها الواسع، ما انتهى الأربعاء 8 أغسطس إلى إطاحة الرئيس ودون تحفظ يذكر من المجلس العسكرى الأعلى بعدد من القيادات العليا بالدولة، من أبرزها رئيس ديوان رئيس الجمهورية وقائد الحرس الجمهورى، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة.
رابعا: جاءت قرارات أحد الحسم بعد إصدار حركة تعيينات القيادات الصحفية، والتى نحت بالصحافة القومية منحى متعاطفا مع رئيس الجمهورية على النقيض من النهج الموالى للمجلس العسكرى الذى دأبت الصحف والمجلات القومية على اعتماده منذ بداية الفترة الانتقالية فى فبراير 2011.
خامسا: بتعيين المستشار محمود مكى نائبا لرئيس الجمهورية، يكون القضاء هو المحطة القادمة لثورة يناير، بما يؤكد استقلالية هذه المؤسسة، وينظم العلاقات بينها وبين بقية السلطات.
●●●
وإلى جانب الاحتفاء الشعبى والثورى بالتخلص من الحكم العسكرى، فثمة تخوف من أن تكون تلك الخطوة بداية «أخونة» الدولة. ورغم انتقادنا لبعض مواقف الإخوان المسلمين خلال المرحلة الانتقالية، فإننا نعتقد أن مصطلح الأخونة ينطوى على قدر من المبالغة لأسباب منها:
أولا: أن الإخوان لم ينجحوا وقد حشدوا كل قواهم فى حصد الأغلبية فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كما أن الدكتور محمد مرسى قد فاز فى الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل عن منافسه الفريق أحمد شفيق، رغم أن تجسيد الأخير لبعث النظام البائد، ورغم حشد تيارات سياسية ذات طابع ثورى قواها وآلاتها الإعلامية لدعم مرشح الإخوان.
ثانيا: غياب الكوادر الإخوانية فى عدد من القطاعات، وبالتالى استمرار إسناد مهام إدارتها إلى المتخصصين من أبنائها، على نحو ما بدا فى الإبقاء على بعض وزراء حكومة الجنزورى فى حكومة قنديل.
ثالثا: أن المعركة الأساسية خلال الفترة الانتقالية كانت بين الدولة المدنية التى بشرت بها ثورة يناير 2011 والدولة العسكرية التى أسستها ثورة يوليو 1952 مع إقرارنا بما لها من منجزات اجتماعية وسياسية وربما تكون تلك المعركة آخر الجولات الحاسمة بين ثورة يناير والنظام البائد وإن قد تتبعها مناوشات متفرقة ذات طابع قانونى ودستورى.
●●●
وإذا كانت الثورة قد أحرزت انتصارا جديدا، فقد يكون ضروريا فى مرحلة ما بعد العسكر اتخاذ خمسة إجراءات، وهى:
أولا: قيام السيد رئيس الجمهورية بإسناد السلطة التشريعية إلى هيئة تمثيلية، ويا حبذا إن كانت هيئة منتخبة، غير أن وسم مجلس الشورى بذات عوار مجلس الشعب يجعله عرضة للحل بدوره، وبالتالى فقد يكون مناسبا تولى الجمعية التأسيسية سلطة التشريع، وهو ما نحته الثورتان الشقيقتان فى تونس وليبيا.
ثانيا: تشكيل مجلس دستورى، إذا ما تم حل الجمعية التأسيسية الحالية، بالانتخاب وليس بالتعيين، وهو ما يبطل الجدل الدائر حول تمثيل كل فئات الشعب فى صياغة الدستور الجديد، وهو أيضا ما سلكته الثورتان التونسية والليبية.
ثالثا: لا ينبغى الاكتفاء بإسقاط الإعلان الدستورى المكمل وانتقال السلطة كاملة للمدنيين، وإنما تأمين ذلك الانتقال بمظلة دستورية، تضمن عدم الالتفاف عليه فيما بعد، وذلك بتضمين الدستور الجديد بابا للأحكام الانتقالية، ينص فيه على العزل السياسى لأعضاء النظام السابق بما يقطع الطريق أمام محاولات تهديد السلم الاجتماعى أملا منهم فى العودة إلى السلطة، وهنا لابد أن أذكر بابتهاجنا بسقوط حكومة أحمد شفيق، دون أن يصدر قانون للتطهير السياسى، الأمر الذى سمح لاحقا بترشح شفيق لرئاسة الجمهورية.
رابعا: تشكيل محكمة للثورة تعيد النظر فى المحاكمات التى تمت خلال الفترة الانتقالية فيما يتصل بقضايا الفساد وقتل المتظاهرين، وذلك بتطبيق مفاهيم العدالة الانتقالية، والارتقاء من إجرائيات القانون إلى روح العدالة على النحو الذى عرفه العالم إبان محاكمات نورمبرج وطوكيو فى أعقاب الحرب العالمية الثانية.
خامسا: تصديق مصر على النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، على أن يتضمن إعلان التصديق قبول اختصاص المحكمة بشأن أحداث سبقت تاريخ التصديق؛ حتى تشمل قضايا قتل المتظاهرين إبان الثورة وفى أعقابها، فضلا عن وقائع التعذيب والممارسات اللاإنسانية للنظام السابق، شريطة ألا تكون تلك الأحداث قد وقعت فيما قبل الأول من يوليو 2002 ، تاريخ بدء سريان النظام الأساسى للمحكمة.
●●●
وإذا تم سريعا تأمين هذا الانتصار، فإن ذلك سيمهد الطريق فى زمن قياسى لتنفيذ برنامج المائة يوم لرئيس الجمهورية، ويتيح التحول من الثورة بأبعادها السياسية إلى الدولة بهمومها الاقتصادية. هنيئا لثورتنا عودتها إلى الطريق الصحيح، وترحما على شهدائنا الأبرار. بورك القرار، وبورك من اتخذه، وبورك من أشار، ولله الحمد فى الأولى والآخرة.