ليس هناك شك فى أن ثورة 17 فبراير (2011) قد بدأت سلمية مثل بقية ثورات الربيع العربى، رافعة من البداية مجموعة من المطالب المشروعة، على رأسها ضرورة صياغة دستور للدولة، وإتاحة حرية الرأى والتعبير، والقضاء على الفساد، والفصل بين السلطات، وتحسين الوضع المعيشى للشعب الليبى، والقضاء على البطالة التى تجاوزت ال32%. هذه كلها مطالب مشروعة، لكن نظام معمر القذافى واجهها بالرصاص وصواريخ الجراد، ولولا التدخل الدولى الإنسانى المشروع لأباد القذافى ثلث الشعب الليبى فى المنطقة الشرقية.
لقد عان الليبيون فى مرحلة التحرير من قتل واغتصاب وتشريد على أيدى مرتزقة القذافى، ولكن فى نهاية المطاف انتصر أحفاد عمر المختار على نظام القذافى وآلته العسكرية الدموية، وما هذا الانتصار إلا خطوة مهمة على طريق النجاح، فنجاح الثورة مرهون بمدى تحقيقها للأهداف والمطالب المشروعة التى خرج الشباب ينادى بها فى 17 فبراير.
لذلك فإن الطريق مازال طويلا أمام الشعب الليبى؛ لأن كل مطالبه لم تتحقق حتى الآن. وعلى الرغم من عدم وجود مؤسسات يمكن الاعتماد عليها فى ليبيا، مثل تلك الموجودة فى كل من تونس ومصر، إلا أننا نثمن المجهودات التى قام بها المجلس الوطنى الانتقالى برئاسة مصطفى عبدالجليل فى مرحلة التحرير للوصول بليبيا إلى بر الأمان.
لحصول الليبيين على دعم الدول الكبرى كان من الضرورى التحدث فى عدة أمور تصب فى مصلحة هذه الدول بالدرجة الأولى، ومنها مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر ليبيا إلى أوروبا، ومكافحة الإرهاب فى منطقة المغرب العربى، ومعضلة توزيع النفط الليبى، ومسألة إعادة الأعمار بعد التخلص من القذافى ونظامه.
ونظرا إلى أنه لفرنسا بُعد استراتيجى فى حوض البحر المتوسط كانت أولى الدول التى اعترفت بالمجلس الوطنى الانتقالى ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الليبى، وأول دولة عملت على إصدار قرار رقم 1973 من مجلس الأمن الدولى، وأول دولة عملت على تنفيذ هذا القرار لفرض منطقة حظر جوى فوق ليبيا وحماية المواطنين من قوات القذافى، كما أنها الدولة التى أمدت الثوار فى منطقة الجبل الغربى بالسلاح والذخيرة بينما كانوا محاصرين من قبل كتائب القذافى، وكذلك هى أول دولة فتحت سفارة لها فى العاصمة طرابلس بعد تحريرها.
ونظرا إلى أن الثورات العربية غيرت موازين القوى فى منطقة شمال أفريقيا، توصل العديد من الدول، الغربية والعربية، إلى قناعة بأن الأوضاع فى ليبيا بعد التدخل العسكرى الأجنبى وانتشار السلاح، ووجود ثورة فى تونس وأخرى فى مصر، لا تخدم مصالح هذه الدول.
لهذا استخدمت هذه الدول ما يعرف ب«القوة الناعمة»، والمتمثلة فى الدعم المادى اللوجيستى والإعلامى والتقنى، من أجل احتواء قادة الثورة الليبية، التى أوُكلت إليهم فى العلن مهمة إخراج ليبيا أزمتها.
وهنا أخشى ما يحاك لنا فى الخفاء، فقد كنا نخشى فقط مسألة التدخل العسكرى الأجنبى، ولم نأخذ فى اعتبارنا مسألة القوة الناعمة ومدى تأثيرها على الحياة السياسية والاقتصادية فى ليبيا، ولاسيما فى هذه المرحلة التى تسبق وضع قانون الانتخابات وقانون الأحزاب.
هذه ليست نهاية المطاف، وليس من العيب أو الخطأ الآن الاختلاف فى وجهات النظر بين العلمانيين والإسلاميين، ولكن من الخطأ أن نترك من يتربص بليبيا، ومن له أجندة ومصالح ليستغل هذا الاختلاف كى ينفذ أجندته التى من الممكن أن تحول بلدنا من دولة سيادية إلى دولة تحت الوصايا.
إن هذه ليست كل التحديات التى ستواجه كل الليبيين، وليس الحكومة فقط، فمن التحديات التى لا تقل أهمية عن التحرير، وضع دستور يتوافق عليه جميع أطياف الشعب الليبى من عرب وأمازيغ وطوارق وتبو، وكذلك كيفية إعادة بناء جيش وطنى، ومعضلة إعادة الأجهزة الأمنية إلى دوائر عملها، وكيفية تفعيل الجهاز القضائى وهيئة الإنصاف والمصالحة الوطنية، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإيجاد آلية لإعادة الإعمار.
إن كل دولة مدت يد العون لينهى الشعب الليبى 42 عاما من حكم نظام القذافى الاستبدادى تريد اليوم صرف فاتورة هذه المساعدة، وهى بأى حال من الأحوال لن تكون أغلى من الدم الليبى الذى سفك فى هذه الثورة.
ولكن على كل هذه الدول التى لديها الآن مصالح تسعى إلى تحقيقها فى ليبيا أن تأخذ فى اعتبارها أننا لن نرضى أبدا بأن تتعارض هذه المصالح مع مصلحة ليبيا.