«حكومة انتقالية».. «حكومة إنقاذ وطنى».. «حكومة تسيير أعمال»، وغيرها من المسميات التى ترددت على آذان المواطن خلال المرحلة الانتقالية التى عاشتها مصر على مدار عام ونصف تلت قيام ثورة يناير. واستخدمت هذه التعبيرات لتحقيق اهداف متناقضة، فكثيرا ما اقترن تعبير حكومة تسيير الأعمال بوعود بتحقيق أهداف الثورة وكثيرا أيضا ما تم استخدام هذا الوصف لتبرير عجز الحكومات عن تحقيق تلك الأهداف نفسها نتيجة طبيعتها الانتقالية. واجهت الحكومات التى توالت خلال تلك الفترة مطالب تبدأ بإصلاح أخطاء النظام السابق فى انحيازه للمصدرين وكبار المزارعين فى سياسات الدعم، وقضية تسوية ملفات طروحات الأراضى المخالفة للقانون، وتمتد لتطبيق سياسات اكثر انحيازا للفقراء فى الاسكان، وعدالة توزيع الأعباء الضريبية، وتحسين مستوى المعاشات، مرورا بملفات أزمات الوقود والبوتاجاز وتباطؤ السياحة. «الشروق» رصدت الإصلاحات البطيئة والمتعثرة للحكومات الانتقالية، وأوضاع التوقف عن اتخاذ القرار فى بعض الأحيان، وما خلفته من ملفات ساخنة تراكمت فى انتظار الحكومة التى سيشكلها الرئيس المنتخب.بعد ثلاثة وزراء.. سياسات غالى باقية فى المالية «خبير العمل» و«الأكاديمى» وعدا بتحقيق أهداف الثورة.. وشكيا من قيود العسكرى
«نحن نتعامل فى هذه الحكومة على أننا باقون، لذلك نضع سياسات قابلة للاستمرار، حتى لو كنا سنرحل غدا»، كانت هذه كلمات سمير رضوان أول وزير مالية بعد الثورة، فى أيامه الأولى فى الوزارة التى استمر فيها لسنوات طويلة رجل مبارك القوى يوسف بطرس غالى.
وبينما كان الكثيرون يتطلعون إلى تغييرات فى سياسات غالى التى كانت أحد دوافع قيام الثورة لانحيازها للطبقات الأكثر ثراء، فإن رضوان والوزراء التالين له لم يتمكنوا من وضع «سياسات قابلة للاستمرار»، إذ كان الجمود هو السمة الأساسية للسياسات المالية فى المرحلة الانتقالية. «الحكومات المتوالية كانت لتسيير الأعمال فقط وليست حكومات انقاذ وطنى، لذا فتعطل الإصلاحات المالية طوال تلك الفترة ساهم فى زيادة الضغوط الاقتصادية»، تقول ضحى عبدالحميد أستاذة التمويل بالجامعة الأمريكية.
فى أولى لقاءاته بالصحفيين تحدث رضوان، الذى كان خبيرا بمنظمة العمل الدولية، عن تجارب التحول الديمقراطى فى المراحل الانتقالية، وطبيعتها الخاصة من حيث استهدافها بالأساس لإحداث تنشيط اقتصادى وتوفير فرص عمل قصيرة الأجل فى مجالات مثل الخدمات العامة لامتصاص الاحتقان الاجتماعى، معترفا أن «الثورة لها ثمن يجب دفعه». الا أنه مع التطبيق العملى لم تظهر أى من الافكار التى طرحها رضوان على أرض الواقع، بسبب القيود التى فرضها عليه المجلس العسكرى.
البحث عن مخرج من المأزق المالى
على مستوى المالية العامة كان رضوان مخيرا بين حلى الاقتراض الدولى وزيادة الضرائب على الفئات القادرة، فى ظل تفاقم عجز الموازنة مع استنزاف احتياط النقد الاجنبى بسبب عدم استقرار مناخ الاستثمار والسياحة. وحاول رضوان أن يمسك العصا من المنتصف بسعيه لطلب القروض والمنح من الشركاء الدوليين وطرحه لزيادة ضريبة الدخل من 20% إلى 25% على صافى الدخول التى تزيد على 10 ملايين جنيه سنويا، وتطبيق ضريبة 10% على الأرباح الرأسمالية، إلا أن مساعيه واجهت مقاومة من قوى اجتماعية وسياسية مختلفة، فمن جهة أجبره مجتمع الاعمال على التراجع عن ضريبة الأرباح الرأسمالية، من خلال الضغوط التى صعدها إلى المجلس العسكرى، الذى رفض أيضا عرض صندوق النقد الدولى بإقراض مصر 3.2 مليار دولار بشروط ميسرة «لعدم التسبب فى وجود تركة ثقيلة للأجيال القادمة»، بحسب تبرير العسكرى.
وبدت المشاهد الأخيرة لرضوان مع خروج مشروع الموازنة العامة المقدم منه لعام 2011 2012 (أول موازنة بعد الثورة)، بصورة تقشفية بعيدة عن مطالب العدالة الاجتماعية، فهى على سبيل المثال لم تستجب لمطالب رفع معدلات الانفاق على الصحة إلى 10% من الانفاق العام ولكن خفضته إلى 4.7%، ولم تتضمن تطبيق قانون الضرائب العقارية الذى اعتبره البعض يحقق العدالة، الأمر الذى دعى بعض الناشطين إلى تسمية تلك الموازنة بموازنة 10 فبراير، أى أنها تنتمى إلى عهد الرئيس المخلوع.
حكومات جديدة فى أجواء مرتبكة
وبعد اعتصام واسع للقوى السياسية فى ميدان التحرير صيف 2011، تعبيرا عن استشعارها استمرار سياسات مبارك على صعيدى السياسات الأمنية وغياب العدالة الاجتماعية، قام المجلس العسكرى بتغيير بعض وزراء حكومة عصام شرف وكان رضوان منهم، مع التعهد بتقديم الصلاحيات الكاملة للحكومة الجديدة، وبدى لافتا للنظر نزول الوزير الجديد، حازم الببلاوى إلى الناشطين المعتصمين فى الميدان وطمأنتهم على وضع الاقتصاد وقدرة الحكومة الجديدة على تحقيق اهداف الثورة.
إلا أن الوزير الجديد الذى أتى من خلفيات أكاديمية لم يغير أيضا كثيرا من الأوضاع القائمة، حيث كان تمرير قرض صندوق النقد من أولى القضايا التى أكدها فى تصريحاته، ومع ذلك لم يتم تمريره، إضافة إلى تأكيده على تطبيق الحد الأقصى للأجور على العاملين فى القطاعات الحكومية، وهو ما لم يتم تطبيقه فى عهده أيضا.
وقال الببلاوى فى أكثر من تصريح إن المجلس العسكرى لم يقدم له الصلاحيات الكافية لتطبيق الاصلاحات المطلوبة «تطبيق اصلاحات مثل الحد الأقصى للأجور كان صعبا تمريره فى حكومة غير منتخبة تقدر على مواجهة الاحتجاجات التى سيقوم بها المتضررون من تلك الاصلاحات، وربما يقع الجزء الأكبر من اللوم فى تعطل الاصلاحات المالية على طول الفترة الانتقالية»، برأى استاذة التمويل بالجامعة الأمريكية. وبعد مذبحة ماسبيرو المروعة جاءت حكومة كمال الجنزورى لتواجه وضعا اقتصاديا متدهورا، مع استمرار انخفاض احتياط النقد الاجنبى وتراجع التصنيف الائتمانى لمصر بسبب الانفلات الامنى والتشكك فى تأخر تسليم السلطة للمدنيين.
واستدعت حكومة الجنزورى ممتاز السعيد، أحد أبرز قيادات المالية فى عهد غالى، ليتولى الوزراة، وهو الوزير الذى كان عكس سابقية أقل اهتماما بالتواصل مع الإعلام وتقديم الوعود حول تحقيق أهداف الثورة، إلا أن الحكومة بادرت بالتعهد بتخفيض دعم الطاقة للصناعات كثيفة الاستهلاك بنحو 33%، وتطبيق سياسات اجتماعية مثل رفع الحكومة لمعاش الضمان الاجتماعى من 150 إلى 200 جنيه.
ملفات ساخنة فى انتظار الحكومة المنتخبة
حصيلة جمود السياسات المالية فى الفترة الانتقالية كانت تفاقم عجز الموازنة العامة، حيث ارتفع فى العام المالى 20112012 إلى 9.8% من الناتج المحلى الاجمالى مقابل ما كانت الحكومة تستهدفه من 8.6%، مع ارتفاع مستمر فى تكاليف أذون وسندات الخزانة التى تطرحها الحكومة فى ظل استمرار عدم وضوح إجراءات نقل السلطة للمدنيين وارتفاع المخاطر، وعدم القدرة على تمرير قرض صندوق النقد فى ظل تصادم الرؤى بين حكومة معينة من المجلس العسكرى وأولى البرلمانات المنتخبة بعد الثورة.
وفى ظل تلك الاجواء المتوترة ظلت هناك ملفات تسعى المالية لتحريكها فى الأجل القريب لتخفيف أعباء الموازنة العامة، منها تفعيل قانون الضرائب العقارية، حيث طرحت الحكومة على البرلمان مذكرة بتعديلات فى احكام القانون تشمل إعفاء السكن الخاص من الضريبة مع وضع الضوابط التى تكفل قصد هذا الاعفاء على سكن خاص واحد لكل مكلف، وهو الإعفاء الذى يتوقع منه أن يسهل تقبل الرأى العام لتطبيق تلك الضريبة.
كما قال رئيس مصلحة الضرائب فى تصريحات ل«الشروق» إن الحكومة تعد تعديلا شاملا لقانون الضرائب على الدخل لتغيير النظام الضريبى من نظام الضريبة الموحدة، الذى بدأه غالى فى عام 2005، إلى الضريبة التصاعدية، إلا أن تطبيق تلك الضريبة مرهون بعودة الاقتصاد إلى النشاط.
وصرح مسئولون فى المالية عدة مرات باعتزام الحكومة تعديل نظام ضريبة المبيعات إلى ضريبة القيمة المضافة، وهو ما سيزيد من الإيرادات العامة لإخضاعه العديد من الخدمات للضريبة الجديدة، ولكن لم تطبق الضريبة أيضا خلال المرحلة الانتقالية. وينتظر صندوق النقد الدولى وجود سلطة منتخبة تسعى لتأييد سياسى للتفاوض مع مصر حول القرض، وهو ما يتوقع حدوثه مع تشكيل الرئيس المنتخب لحكومة جديدة. «أعتقد أن الحكومات السابقة كانت أمام موقف صعب، فأى انفاق اجتماعى كان سينشط الاقتصاد ولكن بدون إصلاح، الفساد فى الجهاز الإدارى كان جزءا كبيرا من تلك النفقات سيتم إهداره، هناك الكثير من الإصلاحات التى نحتاجها حتى نبدأ فى تطبيق الإصلاحات المالية المطلوبة»، كما تضيف عبدالحميد.