أزمة الوقود فى مصر أزمة قديمة جدا، أزمة سريعة الاشتعال، ولكن الفرق بينها وبين أزمات اليوم هو أنها كانت فى الماضى بسبب الحرب فى أغلب الأحيان، أما اليوم فهى بسبب وبدون سبب هذا هو الفارق، فى أثناء الحرب العالمية الأولى من عام 1914 إلى عام 1918 عانى المصريون من أزمة صعبة فى الوقود بكل أنواعه وأهمها على الإطلاق للمواطن المصرى كان الكيروسين أو الجاز الذى تم الاصطلاح على تسميته رسميا باسم البترول حيث كان يتم استخدامه فى الإضاءة وكذلك فى تشغيل وابورات الطحين وله استخدامات أخرى فى المطابخ، مصر فى ذلك الوقت كانت تستورد 90% من احتياجاتها من الوقود عموما، فيما كان يحتكر استيراد الجاز أربع شركات أجنبية فقط، ويحتكر الخواجة كوتسكا صناعة السبرتو، أى أن أهم مصادر الوقود فى مصر خلال الحرب العالمية الأولى كانت تقع بالكامل فى قبضة مجموعة الأربعة + واحد، وهى الشركات الأربع الاحتكارية والخواجة كوتسيكا. فى شهر فبراير 1916 تفجرت أزمة الجاز فى مصر، تفجرت الأزمة بالمصادفة، حين تأخر مجىء القطارات القادمة من بورسعيد المحملة به لمخازن الشركات الأجنبية المستوردة والمحتكرة له فى القاهرة، بدأت بعض هذه الشركات تمسك عن البيع، فبدأ الناس يشعرون بالخوف من حدوث أزمة، بعضهم بدأ يخزن ما تصل إليه يده من الجاز، وبعضهم تدافع على منافذ البيع، كما تدفقوا على مخازن هذه الشركات، تجمع الناس وهم يسيطر عليهم الخوف والقلق، يطلبون المزيد منه، بعض هذه الشركات أغلق مخازنه أمام الناس دون النظر لأى اعتبار؛ لتبدأ الأزمة فى التصاعد.
اللقطة الأولى لما بعد بداية الأزمة: فى مكتب حسين رشدى باشا رئيس الحكومة المصرية اجتماع عاجل مع مديرى الشركات الأجنبية الأربع المحتكرة لبيع الجاز، الاجتماع حضره الوزراء، طلب رشدى باشا إيضاح كامل لسبب هذه الأزمة، جاءه الرد الفورى من مديرى الشركات أنه متوافر، ولا توجد أزمة!! فكان الرد الطبيعى من رئيس الوزراء إذن ليأخذ أهالى العاصمة حاجتهم منه، ولتوزع عليهم الكميات الكافية، مدير شركة فوكسوم أويل، وشركة وورموس وهى من الشركات الأربع المحتكرة تعهد كل منهما أن توزع شركته على أهالى القاهرة كل يوم 8 آلاف صفيحة، فيما أصدر رشدى باشا الأوامر أن ترسل المحافظة كل يوم إلى كل قسم من أقسام البوليس، فنطاسى جاز توزع على الأهالى فى دائرة كل قسم، انتهى الاجتماع فهل تنتهى العاصفة والأزمة؟
اختلف السارقون على الغنيمة فظهرت الحقيقة، هذا ما حدث فى أزمة الجاز فى مصر خلال الحرب العالمية الأولى حين وُضعت على مائدة الحكومة تفاصيل الأزمة واللعبة بالكامل، وضعها مدير إحدى شركات البترول الأجنبية المحتكرة للجاز فى مصر، تسلل من وراء ظهرهم، وأطلع الحكومة على تفاصيل وسر أزمة الجاز المفتعلة فى البلاد!
فهل كان اعترافا يدفعه ضمير ما زال ينبض فى قلب صاحبه، أم كان اعترافا دافعه الانتقام من الشركات الأخرى المنافسة لشركته؟ بالتأكيد تفاصيل الأزمة تعطى الدليل على الدافع.
كانت الحقيقة وراء الأزمة قيام إحدى شركات الجاز المحتكرة بغلق مخازنها تماما والامتناع عن البيع، حتى تستنفد الشركات الأخرى كل ما لديها من المخزون بعد بيعه بتسعيرة الحكومة الجبرية، فلا يبقى أمام الحكومة والناس سوى المخزون لدى هذه الشركة وحدها، فتبدأ آنذاك فى البيع بالأسعار التى تفرضها على الجميع، الشركات الأخرى فطنت للعبة، وقررت هى الأخرى غلق مخازنها والامتناع عن البيع، وبدأت المضاربة بين الشركات الأربع الاحتكارية تحت شعار سياسة النفس الطويل، فحدثت الأزمة التى عانى منها الناس، وعلى أبواب مخازن الشركات انكسرت هيبة الحكومة، وانكسرت معها نفس وكرامة المواطن المصرى.
بعد شهور من المعاناة دخلت الأزمة فى مشهد جديد لها، خرجت فى هذا المشهد المتأزم الجديد من خانة الاحتكار والمضاربة بين الشركات المستوردة، لأزمة أخطر وضعت الجميع فى مركب واحد، فالوارد من الجاز من الخارج أصبح قليلا لصعوبة وجود وسائل نقل، بعد أن اشتدت ضراوة الحرب واشتدت معها حصار الموانئ، لتتحول البحار المفتوحة إلى مصايد مغلقة على السفن التجارية الناقلة للبضائع والوقود.
الهاجس النفسى لدى جمهرة المواطنين ساعد على تفاقم الأزمة، فاستغل بعض الباعة الجائلين خوف الأهالى وحرصهم على تخزين الجاز، فأشاعوا بينهم قرب نفاد الكميات الموجودة فى مخازن الشركات، فتزايد شراء الناس والتزاحم أكثر، وبين الخوف المسيطر على الأهالى والتزاحم على الشراء والتخزين رفع الباعة الجائلون سعر صفيحة الجاز 4 لترات إلى 26 قرشا رغم أن السعر الرسمى 23 قرشا ونصف القرش.
والصحافة تنشر أخبارا مؤسفة عن أزمة الوقود: (مشاجرة بين جندى بوليس يعمل لحفظ الأمن على أبواب إحدى شركات البترول، ضرب بالأيدى، اتهامات متبادلة، عمال الشركة يقولون إن الجندى يسمح للبعض بالتسلل لمخازن الشركة للحصول على صفائح بترول، مقابل رشوة، وأنه يشترى بعضها لنفسه ثم يبيعها بسعر أعلى للناس خارج الشركة)، وخبر آخر: (أحد مفتشى إدارة الموازين والمكاييل يكتشف بعض براميل البترول ناقصة العبوة وأصابع الاتهام تشير لسائقى عربات الشركة المكلفين بالتوزيع).
وتنتقل أزمة الجاز من الحجرات المغلقة التى يجرى فيها التفاوض بين الحكومة وشركات الجاز الاحتكارية إلى الشوارع الخلفية، تسلل إلى المشهد الحرافيش الجدد وهم الباعة الجائلون (السريحة)، ومعهم محلات البيع بسعر القطاعى، ومعهم سائقو بعض عربات شركات البترول المكلفون بالتوزيع، الذين دخلوا إلى لعبة تجارة الجاز فى غفلة من الجميع.
مشهد آخر للأزمة فى مصر فى شتاء يناير 1918 والمكان مكتب وكيل إدارة الأمن العام بوزارة الداخلية، المستر سميث، الرجل فى عمل مستمر لا يهدأ يعكف على وضع خطة جديدة لتطويق الطرف الآخر فى حرب الشوارع الخلفية بين الحكومة وشركات الجاز الاحتكارية، حرافيش الشوارع الجدد من الباعة الجائلين، أصحاب المحال، والمتعهدين، فماذا فعل الرجل؟
مستر سميث كان رجلا ذكيا، اقترح إصدار لائحة لتوزيع البترول فى القطر المصرى، تعرض على السلطات العسكرية البريطانية وتنشر على الناس فى بلاغ عسكرى، الرجل يريد ضمان الالتزام بها وعدم خرقها، حتى يدرك الناس والشركات والحرافيش الجدد، والمتعهدون وأصحاب المحال أن قواعد اللعبة أصبحت مع السلطات العسكرية البريطانية، وأن الصرامة والشدة ستكون عنوان المرحلة القادمة فى مواجهة المتلاعبين بالجاز.
فى صباح يوم الاثنين 18 فبراير 1918 نشرت السلطة العسكرية اللائحة العمومية لمراقبة توزيع زيت البترول (الجاز)، أو لائحة الأمل لدى المواطن البسيط.
فى الإسكندرية بدء تنفيذ اللائحة، شركة الجاز تقوم بتوزيعه على المحال كل 24 ساعة، وعلى أصحاب المحال الحصول على رخصة للبيع من البوليس، وعليهم أن يكونوا على استعداد تام أمام محالهم أثناء مرور فنطاس الجاز. على كل فرد أن يرسل طلبا مكتوبا إلى مراقب توزيع الجاز يحدد فيه عدد الأشخاص الساكنين معه فى المنزل، واسم بائع الجاز الذى اعتاد الشراء منه شرط أن يكون قريبا من المنزل، وأن يكون البائع حاصلا على ترخيص بيع الجاز من البوليس.
واجتهدت كل محافظة وكل قسم على تنفيذ اللائحة بالأسلوب الأمثل والمناسب، بلدية الإسكندرية مثلا فكرت أن يتم توزيع الجاز على الأهالى بتذاكر (كوبونات)، ولكن الحكومة رفضت بدون مبرر واضح. وفى القاهرة مثلا فى مناطق الزيتون وحمامات القبة والقبة، ابتكر البوليس فيها طريقة لطيفة للتوزيع جعلته محل ثناء ورضا الأهالى، قام بعمل إحصاء لكل سكان هذه المناطق الثلاث ومقدار ما يلزمهم من الجاز وما يكفى للمنازل أو مخازن الأهالى أسبوعيا، قسمهم إلى مجموعات، كل مجموعة تتسلم حقها يوما فى الأسبوع بالتبادل بينهم.