بنايات حكومية مهدمة إثر القصف الإسرائيلى، وعقارات سكنية تعرضت لغارات بالطائرات، وأراض زراعية خصبة تم تجريفها، ومحطات البنزين مغلقة، وانقطاع التيار الكهربائى يصل إلى 18 ساعة يوميا.. هكذا بدا المشهد لحظة دخول بعثة «الشروق» قطاع غزة الذى يضم نحو 1.8 مليون شخص، برفقة الوفد البرلمانى المصرى فى زيارة دامت نحو 3 أيام. الواقع المرير الذى يعيشه أهالى غزة أول شىء سيستلفت انتباهك مجرد عبورك البوابة الحدودية من مصر إلى القطاع، فلا خدمات صحية ولا وقود وأعمال التنمية توقفت، باختصار: لن تجد فى غزة سوى الشكوى من الأوضاع الإنسانية الصعبة، ورغم ذلك سيفاجئك إصرار الشعب على الصمود، واعتزازه بكرامته، وحبا شديدا يكنونه للشعب المصرى وثورة يناير.
ومن أبرز فاعليات الزيارة كانت الكلمة التى وجهها فتحى أبو مصعب، وزير الداخلية فى السلطة الفلسطينية، إلى الوفد المصرى، وعلى الرغم من حدة كلماته وصرامته، فإنها لاقت قبولا لدى عدد من النواب الذين همسوا عقب انتهائه «عايزين واحد زيه فى مصر بدل اللى عندنا».
وانتقد أبو مصعب غياب الدعم العربى للقطاع، وشدد على أهمية دور مصر، وواجبها فى تقديم الدعم الكامل لغزة، وتثبيت أقدام الفلسطينيين فى مواجهة الصهاينة وقال: «أعدوا ما استطعتم من الجيوش لتحرير الأقصى، ولا يتخوف البعض ويتحدث عن ترتيب أوضاع مصر الداخلية، فإذا رفعتم الرمح جاءتكم العزة»، وتابع: «نريد أن نؤسس مع العرب والمسلمين لخلافة قادمة، وهناك من يقول لا تتحدثوا عن الخلافة حتى لا تُثيروا غضب أمريكا، إلا أنه فى غضب أمريكا نصرنا، ويجب أن نقف أمامهم بوحدتنا».
ومن جانبه، أكد إسماعيل هنية، رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة، خلال استقباله للوفد المصرى بمنزله بمخيم الشاطئ، أن قدر مصر أن تكون بوابة تحرير فلسطين عبر التاريخ، وواجب عليها استعادة دورها بعد الثورة التى أفرزت برلمانا معبرا عن إرادة المصريين دون تزييف، مضيفا: «المقاومة خيار استراتيجى لا غنى عنه، خصوصا أن طريق المفاوضات لا يمكن من خلاله استعادة الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين، مع ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطينى والمصالحة برعاية الجانب المصرى.
ووجه الدكتور محمد السعيد إدريس، رئيس الوفد البرلمانى، عددا من الرسائل فى عدة لقاءات بغزة، وشدد على أن مصر لن تشارك مجددا فى حصار القطاع، وأن الإرادة فى مصر خلال المرحلة المقبلة ستكون للشعب دون غيره، مخاطبا العدو الصهيونى أمام نواب المجلس التشريعى الفلسطينى قائلا: «هودوا ما شئتم، فالأرض الفلسطينية تعرف أصحابها، وسنعود جميعا إليها وسنحرر كل شبر بها من البحر إلى النهر»، وتابع: «البرلمان المصرى سيدافع بكل قوة عن حقوق الشعب الفلسطينى، ومصر الثورة لن تقبل أن يكون الصهاينة صديقا لها أو حليفا أو شريكا».
وقال إدريس أمام الآلاف من أهالى القطاع عند بيت حانون، خلال مسيرة يوم الأرض، إن مصر عادت بشعبها وقياداتها لدعم القضية الفلسطينية، وما يحدث فى غزة أصبح مسئولية المصريين، وأضاف: «شرعيتكم يا حكام العرب من هنا من أرض فلسطين»، وهتف مع الآلاف «الشعب يريد تحرير فلسطين».
وفى سياق الأزمات التى تجتاح القطاع يعد القطاع الصحى أكثر المتضررين من الحصار، فآلاف المرضى يعانون نقص الأدوية، والخدمات الإسعافية تقريبا شبه معدومة، والوضع داخل المستشفيات مأساوى، وهو ما لاحظناه فى مستشفيات مثل الشفاء وكمال عدوان ومحمد الدرة والنصر للأطفال، كما أن أزمة نقص الوقود تسببت فى تقليص خدمات الإسعاف والطوارئ إلى النصف، وتوقفت عدد من الأقسام الحيوية بالمستشفيات، فضلا عن نقص المواد الطبية.
ويعانى نحو 6 آلاف مريض بالفشل الكلوى داخل القطاع، وآلاف آخرين مرضى القلب بينهم أكثر من 400 طفل، إضافة إلى عشرات الآلاف من المرضى يعانون من عدم قدرتهم على الوصول للمستشفيات، مما ضاعف الطلب على سيارات الإسعاف التى توقفت بشكل كبير بسبب نقص الوقود.
وانعكست أزمة انقطاع الكهرباء على شتى مناحى الحياة فى القطاع، فالمياه شبه مقطوعة طيلة اليوم، ولا يتم تشغيل الآبار سوى 6 ساعات فقط يوميا، وجميع محطات الصرف الصحى مهددة بالتوقف عن العمل.
وانقطاع الكهرباء له تداعيات أخرى على قطاع المياه والصرف الصحى، فآبار المياه التابعة لبلديات غزة تعمل بطاقات محدودة، وتشغيل الآبار لساعات يوميا لا يكفى لتغطية احتياجات المواطنين المتزايدة من المياه، ويتوقع المسئولون تفاقم الأوضاع خلال فترة الصيف وازدياد الاستهلاك اليومى من المياه، ومجمل إنتاج محطات تحلية المياه بالقطاع يصل إلى 20 ألف لتر مكعب يوميا، وهو ما تعجز عن إنتاجه فى ظل انقطاع التيار الكهربائى، كما يوجد فى قطاع غزة 4 محطات للصرف الصحى كلها مهددة بالتوقف عن العمل فى حال استمرت أزمة الوقود.
أزمة الوقود
يقول المهندس كنعان عبيد، وزير الكهرباء فى الحكومة الفلسطينية المقالة فى تصريحات ل«الشروق»: «نحتاج الوقود اليوم وليس غدا، ووزارة البترول المصرية أخلت باتفاقاتها معنا، والتى نصت على توصيل السولار إلى قطاع غزة عبر معبر رفح بالسعر الدولى، بما يعادل ألف دولار للطن، وبالفعل دفعت الحكومة الفلسطينية 2 مليون دولار، إلا أننا فوجئنا باتصال من وكيل وزارة البترول يطالب بتسليم السولار عبر معبر كرم أبو سالم، الذى يتحكم فيه الإسرائيليون، كما أن هناك اتفاقية لتوصيل الغاز من 2007، لم يتم تفعيلها حتى وقتنا هذا».
ورد النائب مجدى صبرى، عن الحزب المصرى الديمقراطى، وعضو بالوفد المصرى، «خدوا السولار بأى طريقة واستحملونا ل30 يونية، فالإدارة فى مصر مازالت مباركية، وأصحاب القرار السياسى متواطئون مع الصهاينة»، إلا أن الدكتور خالد حنفى، وكيل لجنة الشئون العربية اعترضه قائلا: «الأزمة لا تتحمل أى مماطلة، ومجلس الشعب سيضغط بكل ما أوتى من قوة، لإيجاد حل قريب المدى وجذرى لأزمة نقص الوقود وانقطاع الكهرباء بالقطاع».
وخلال جولة تفقدية للوفد البرلمانى بمحطة الكهرباء الوحيدة بغزة والمتوقفة عن العمل حاليا بسبب نفاد المخزون الاحتياطى من الوقود، أوضح الدكتور رفيق مليحة، المدير الفنى للمحطة، بأن العجز بالمحطة وصل إلى 70%، ومن الممكن تشغيل توليد الكهرباء عبر وقود الديزل إلا أن الخزانات خاوية منذ 14 فبراير الماضى، والمحطة بحاجة فعلية إلى 700 ألف لتر سولار يوميا ليتم تشغيلها بشكل كامل، وأضاف: «سعر الكيلو بايت يكلفنا 4 أضعاف سعر بيعه للمواطن الفلسطينى».
أزمات الطاقة ليست الوحيدة التى يشكو منها القطاع، فهناك معاناة يومية لدى الأهالى فى العبور إلى مصر لتلقى العلاج أو الدراسة، وعن ذلك يتحدث منذر مشتهى، 36 عاما قائلا: «للمرة الخامسة أحضر من بلدتى ويتم منعى من عبور معبر رفح، رغم مرضى ومعاناتى»، منذر أصيب فى قصف للقوات الإسرائيلية على غزة أواخر 2008، ويعانى من بتر كلى فى إحدى يديه، ويستعيض عنه بطرف إلكترونى صناعى تعطل ويرغب فى إصلاحه، وبتر جزئى فى يده الأخرى، ويشكو من منعه هو وآخرين من عبور معبر رفح البرى لتلقى العلاج داخل الأرضى المصرية، حيث تتشدد السلطات فى ضرورة استيفائه لشهادات وتقارير طبية مختومة تثبت ضرورة حاجته للعلاج بالقاهرة، ويرد قائلا: فلينظروا إلى يدى بدلا من حاجتهم إلى الأوراق».
عدد غير قليل من الفلسطنيين تجمهر حول نواب مجلس الشعب المصرى، وطالبوهم بالوقوف بجانبهم وتوصيل صرخاتهم بشأن تعنت الجانب المصرى، ووضع حد لمعاناتهم عبر تطوير آلية العمل بالمعبر. ويوجه ماهر أبوصبيحة، مدير المعابر بالقطاع، لوما لزملائه فى الجانب المصرى، لرفضهم السماح بمرور أكثر من 400 فلسطينى يوميا كحد أقصى، رغم أن المعبر يتحمل عبور الآلاف، يقول: «أغلب الفلسطينيين أسماؤهم مركبة، والقوائم التى لدى الجانب المصرى لا تحتوى على أسماء الممنوعين كاملة، حيث يتم منع العشرات لتشابه أسمائهم الأولى مع اسم أحد المطلوبين أمنيا»، مشيرا إلى أن الأزمة قد تتفاقم فى موسم الضيف بسبب زيادة المترددين على المعبر، مطالبا نواب البرلمان بالضغط على الحكومة المصرية لزيادة أعداد العابرين الفلسطنيين.
تقبيل الرؤوس
وفى زيارة للوفد البرلمانى لجمعية السلامة لرعاية الجرحى، قام النائب السلفى جمال قريطم، وكيل لجنة الشئون العربية، بتقبيل رءوس وأيدى جميع المصابين بالجمعية، وفى مقابلة لأهالى الأسرى ألقى عطاالله أبوالسبح، وزير الدولة للأسرى والمحررين، خطابا عاطفيا استجدى خلاله المصريين وناشدهم الوقوف إلى جانب إخوانهم الفلسطنيين، وتفعيل دورهم فى صفقات الأسرى، منددا بالاعتقال الإدارى من قبل العدو الصهيونى، ومستشهدا بإضراب الأسيرة هناء الشلبى عن الطعام منذ أكثر من 40 يوما داخل السجون الإسرائيلية.
وحكى أبوالسبح عن معلمه المصرى وهو صغير، الذى توفى فى حرب 1967، وكيف يدين الفلسطنيين للشعب المصرى، وأنهم كانوا أكثر من فرحوا بثورة المصريين فى 25 يناير ضد الرئيس المخلوع الذى خان العرب جميعا، بحسب قوله، فيما ألقى ابن أحد الأسرى قصيدة تحت عنوان «أبى» والتى أبكت أغلب النواب الحاضرين.
وفى سياق آخر، يشكو صيادو غزة من أزمة نقص الوقود اللازم لتشغيل قوارب الصيد، فالمدينة ساحلية والعشرات من القوارب حبيسة ميناء غزة، لغياب وقود المازوت، واشتكى الصيادون للوفد البرلمانى من معاناتهم نتيجة قلة الناتج والدخل اليومى جراء نقص الوقود، وتحديد البحرية الإسرائيلية للمسافة المحددة لعملهم، وقال متحدث باسمهم إن الصياد يعيش اليوم بيومه، ويعتمد على موسم الصيد، وعند عرقلة الموسم يخسر أخصب فترات عمله، وأكثرها دعما لصموده خلال العام.
وأشاروا إلى أن كل قارب محاط من جميع جوانبه بكشافات إضاءة كبيرة، ولا يمكن ممارسة العمل ليلا دون تشغيلها، كما أن تخزين الأسماك بعد صيدها يحتاج إلى ألواح ثلج ليحملها الصياد معه داخل البحر، وأزمة الكهرباء ألحقت أضرارا بتجميد هذه الألواح، ويجب تخزين الأسماك فى الثلاجات فور العودة من رحلة الصيد، وبالتالى فالحياة العملية للصيادين توقفت تماما جراء أزمة نقص الوقود.
ومن جانبه أشاد النائب السلفى أحمد الشريف، فى خطبته بمسجد الشاطئ الكبير فى غزة، بدور المرأة الفلسطينية وصمودها، داعيا قادة الفصائل الفلسطينية للوحدة ونبذ الخلاف، وخاطب أهل فلسطين نيابة عن أهل مصر قائلا: «نحن لم نأتكم تكرما أو تفضلا، وإنما حقا واجبا، لقد تأخرنا، وإن رأيتم منا تراجعا أو تخاذلا عنكم، فوالله لم يكن بأيدنا ولا بملكنا، نحن فداكم، نحن وراءكم، نحن معكم، نحن منكم، القضية قضيتنا مثلكم».