موت عامل صعقا بالكهرباء أو بصاروخ إسرائيلى لن يحدث فرقا كبيرا فى نشاط منطقة الأنفاق فى غزة، ولن يتبعه قرارات بتوقف أو تقليص العمل فيها، بعدما حولها الاحتلال بحصاره للقطاع إلى مركز لتجارة مربحة، ومصدر دخل لآلاف العمال الفلسطينين، بعد أن صارت شريان الحياة الرئيسى لغزة الذى سيؤدى انقطاعه إلى قتل من يعيشون على هذه الأرض. «الشروق» زارت منطقة الأنفاق فى قطاع غزة، التى تقع بالقرب من حدودها مع رفح المصرية وأجرت تحقيقا عن المنطقة، رغم تشديد سلطة حماس التى تدير القطاع منذ إقالة حكومتها قبل نحو أربع سنوات الرقابة على الراغبين فى الدخول، خشية اندساس جواسيس قد ينقلون معلومات عن خريطة المنطقة ليسهل ضرب أنفاق بعينها من الجانب الإسرائيلى.
ولم يسهل علينا دخول المنطقة أن يكون مصطحبنا ويدعى أبوخالد شريكا فى ملكية أحد الأنفاق، لذلك بالكاد استطعنا التقاط صور.
وتتسم المنطقة بأنها مفتوحة، وتخلو حدودها من الأسوار تماما، ولكنها تقع وسط المساكن، ويلفت الانتباه كثرة البنايات الحديثة غير المكتملة المحيطة بها، والمدمرة جزئيا أو كليا بسبب قذفها المتكرر بالصواريخ الإسرائيلية، وتوجد أكشاك حراسة على المداخل الواقعة على الطرق الممهدة للدخول بالسيارات فى جهاتها الأربع.
وبدأت الزيارة بمحاولة الدخول من الناحية الشرقية القريبة من معبر رفح، وعلى الرغم من موافقة الحرس على الدخول بعد إقناعهم بأننا لسنا من الصحافة وأننا مجرد زوار، لكن الفشل فى إجراء حوار مع العمال فى بعض الأنفاق والتصوير، اضطرنا إلى الالتفاف للدخول من الناحية الغربية وهناك كان الحراس أصغر سنا ويبدو أنهم أقل خبرة وأكثر لطفا، ومثلهم العمال فى الداخل، وبالقرب من كشك الحراس كان يوجد عمال أنهوا بناء مدخل نفق جديد تم تدمير مدخله بصاروخ إسرائيلى فى القذف الأخير.
«لم يصب أحد بأى أذى» كما قال أحد الحراس، وأضاف أبوخالد: «عندما يكون هناك قذف نحاول ألا نتواجد فى الأنفاق، ويقوم أحد العمال من العاملين على «وش الأرض» بإخبارنا بحدوث أى قذف عبر سماعات منتشرة فى كل الأنفاق، فنهرب إلى المكان الأقرب لنا سواء فى مصر أو غزة».
تشبه منطقة الأنفاق عند النظر إليها من السيارة المحاجر، ولا يكفى أن تنظر من السيارة لترى مداخل الإنفاق، فلابد أن تكون قريبا منها جدا، على الرغم من أن المساحات التى تفصل مداخل الأنفاق عن بعضها البعض محدودة ولا تتجاوز عدة أمتار. ولفت انتباهنا أحد الأنفاق من خلال وجود عدد من العمال حوله إضافة إلى خيمة محدودة مصنوعة من «الخيش»، والنفق مخصص لنقل بعض مواد البناء خاصة الحصى، ومدخله عبارة عن حفرة مبطنة بالأسمنت الرمادى عمقها يصل إلى نحو 15 مترا وقطرها نحو متر ونصف المتر، ويوجد عمال فى الأسفل يمسكون بمعدات مثل «الكوريك» ويحملون الحصى فى الصناديق التى ترفع برافعة تعمل بالكهرباء، ويتلقاها العمال فى الأعلى.
نفق السمك
على بعد أربعة أمتار من هذا النفق يوجد مدخل نفق ثان ولكنه مختلف حيث يهبط بشكل مائل إلى الداخل ويضع بطوله نصف ماسورة مجارى ذات قطر كبير نسبيا، بحيث تسهل حركة نقل الصناديق المحملة بالأسماك أو البضائع الأخرى.
«معظم ما يتم نقله عبر هذا النفق أسماك، لذلك تفوح رائحة السمك منه بشكل حاد»، قال أحد أفراد العائلة التى تمتلك هذا النفق، وأضاف أنه يتم تحصيل 7 دولارات على كل صندوق سمك وهو يحتوى على 25 كيلو جراما، ونحصل دولارا وربع الدولار على الكراتين الخفيفة، ويقوم فرد منا بالإشراف على تحميل الصناديق من الجهة الأخرى فى مصر، وفى نهاية اليوم يعود فى الصناديق التى تتحرك عن طريق جرها بسلك يتحرك بشكل دائرى بين مدخلى النفق فى غزة ومصر، «الرائحة سيئة جدا فى نفق لا يزيد عرضه على متر ونصف المتر وارتفاعه على متر لكن أكل العيش كده» أضاف صاحب النفق مشيرا إلى أن أجر العامل الذى يعمل من الصباح الباكر حتى أذان العصر يصل فى اليوم إلى 100 شيكل، أى نحو 160 جنيها مصريا حيث إن الدولار يساوى 3.5 شيكل.
السيارات بدون استثناءات
«الأنفاق إما مائلة أو مستقيمة على حسب الغرض منها» حسب صاحب أحد الأنفاق، وقال إن أنفاق نقل السيارات عادة ما تكون مائلة لكن معظم البضائع الأخرى تكون مستقيمة ذات مدخل عمودى، وعندما طلبنا من أحد المراقبين فى الداخل تصوير نفق سيارات، قال إن هذه الأنفاق محظور الدخول لها تماما «ولا استثناءات فى ذلك».
وتعتبر أنفاق نقل السيارات هى الأكثر تكلفة لأنها الأكبر، حيث يصل ارتفاعها إلى نحو 38 مترا، ومعظمها يتركز فى الناحية الشرقية من منطقة الأنفاق، ويحرص جميع العاملين فى هذه المنطقة على عدم كشفها لأى من الزوار الفضوليين، لذلك فشلت محاولاتنا فى الاقتراب منها.
وكثيرا ما تستخدم إسرائيل الأنفاق كورقة ضغط على مصر، من خلال اتهام القاهرة بالتساهل مع عمل الأنفاق، مما يؤدى إلى نقل الإرهابيين والسلاح الذى يستخدم ضد إسرائيل، ومن جانبها تقوم الحكومة المصرية بتدمير بعضها بين الوقت والآخر، وقد أشارت جريدة «الشروق» مؤخرا إلى أن الجيش رسم خارطة لمناطق شبكات أنفاق التهريب المنتشرة على طول الحدود المصرية الفلسطينية البالغة مسافتها نحو 13.5 كيلو متر تقريبا، استعدادا لإغلاقها.
«لو أن مصر أغلقت الأنفاق لكان معنى ذلك أنها تخنق غزة» قال عدد من المواطنين فى غزة، وأشار أبوإسماعيل صاحب أحد الأنفاق إلى أن عدد الأنفاق ارتفع بشدة بعد فرض إسرائيل حصارا على غزة قبل 5 سنوات، ويتردد أنها بلغت نحو 1300 نفقا يعمل بها نحو 13 ألف شخص، وعلى الرغم من أن تلك الزيادة أدت إلى ارتفاع كبير فى كميات وأنواع السلع التى تدخل القطاع، «وهى كافية لتلبية احتياجات غزة لمدة عام قادم» حسب قوله، إلا أن إغلاق الأنفاق يعد كارثة بالنسبة للقطاع.
ويستبعد أبوخالد هدم مصر لكل الأنفاق، بسبب طبقة الأثرياء التى ولدتها تلك التجارة فى منطقة العريش، وقال إن هؤلاء الأثرياء يحصلون على نسبة من الربح مقابل الإشراف على النفق فى الجانب المصرى، مشيرا إلى أن مدخل النفق فى مصر يجب أن يكون داخل منزل أوحوش أو جنينة بسبب تحريم عمله عكس القطاع حيث إن عمل الأنفاق مقنن وتفرض عليه ضرائب.
الحصار ليس سببا لوجود الأنفاق
لم تكن الحاجة إلى تخفيف الحصار عن غزة هى سبب ابتكار فكرة الأنفاق «ولكن الربح فقط ولا شىء غيره» حسب أبومحمود صاحب أحد الأنفاق التى تهدمت دون سبب واضح، وقال إن الدليل على ذلك أن حفر أول نفق كان فى عام 1994 من خلال واحدة من أشهر العائلات فى رفح الفلسطينية وهى عائلة الشاعر، «وذلك لتهريب السلع عبر الحدود كما يحدث على الحدود بين بلدان كثيرة فى العالم».
ويقول أبوصائب أن مصادر السلع التى تدخل فلسطين محصورة بين ثلاث دول، وهى الصين وكوريا الجنوبية وتركيا بالإضافة إلى السلع المصرية، حيث يقوم التاجر الفلسطينى بالسفر إلى تلك البلدان، ويتعاقد عليها وتنقل إلى مصر ثم يتم نقلها إلى غزة عبر الأنفاق، ويبرر أبوصائب اعتماد التجار الفلسطينيين على سلع تلك الدول بانخفاض أسعارها بما يتناسب مع الشريحة الكبرى من المواطنين.
وكشف أبوخالد عن أن الأنفاق تستخدم فى نقل كل السلع العادية وغير العادية والمحرمة مثل المخدرات والسلاح، وأشار إلى أنه بدأ بعض أصحاب الأنفاق مؤخرا فى نقل سلع إسرائيلية لبيعها فى مصر عبر الأنفاق، «حيث إن هناك بعض المصريين يفضلونها»، وهم بذلك يشاركون كثير من أهل القطاع الذين يتفاخرون بعرضهم منتجات إسرائيلية فى محالهم، كما يتنقل كثير من الأشخاص بين البلدين عبر الأنفاق وتصل تكلفة الشخص ذهابا وإيابا إلى ما بين 200 و400 دولار.
وقد شهدت تكلفة النفق ارتفاعا ملحوظا بسبب تطور صناعتها، فقد كانت قبل عدة سنوات تتراوح بين 30 و40 ألف دولار، إلا أنها قفزت إلى ما بين 100 و200 ألف دولار بسبب استخدام خامات إضافية مثل الحديد والأسمنت والسيراميك وغيرها، وذلك لحمايتها، بعد أن تكرر تهدم عدد كبير منها، كما تتراوح أعماق الأنفاق بين متر و38 مترا، وتتراوح أطوالها بين 500 متر و2000 متر، ممتدة بين رفح الفلسطينية فى منطقة الأنفاق التى تصل مساحتها إلى نحو 7000 متر، والعريش فى شمال سيناء بمصر.
أكد ياسر عثمان، سفير مصر لدى السلطة الوطنية الفلسطينية، فى تصريحات خاصة ل(الشروق) على التزام مصر الأصيل بتخفيف الحصار عن قطاع غزة وضمان استقرار الحالة الإنسانية والاقتصادية بالقطاع وبأن هذا الأمر يشكل أولوية للسياسة المصرية خلال المرحلة الحالية، وانطلاقا من هذا فقد أقدمت مصر على فتح معبر رفح كما تقوم بجهود دولية لانسياب حركة البضائع إلى غزة عبر معبر كرم أبوسالم كذلك فلا توجود أى نية لدى مصر لإغلاق شبكة الأنفاق التى تدخل منها المواد الأساسية لغزة، وذلك باستثناء الأنفاق التى تضر بالأمن القومى مثل التى تستخدم فى نقل الأشخاص المطلوبين سواء من قبل السلطات المصرية أو فى غزة، أو تلك التى تعمل فى نقل بضائع غير مشروعة مثل المخدرات والسلاح والبضائع المسروقة»، إن الإنفاق تمثل الآن أحد شرايين الحياة الرئيسية لقطاع غزة» حسب تعبيره.
ووصف عثمان تجارة الأنفاق التى قدرها بما يزيد على مليار دولار سنويا، بأنها رغم دورها فى تخفيف الحصار فإنها ضارة لكل من الاقتصاد المصرى والفلسطينى على حد سواء، فهى غير مدرجة رسميا، إضافة إلى أن العمولات التى يحصلها أصحاب الأنفاق تؤدى إلى ارتفاع أسعار السلع بالنسبة للمواطن الفلسطينى، «أى أن معظم هذه الأرباح تصب فى جيوب عدد قليل من الفلسطينيين»، وعلى الجانب الآخر تحرم المواطن المصرى من كثير من السلع المدعومة مثل السولار والبنزين والدقيق التى يتم تهريبها عبر الأنفاق، «معظم عائد هذه التجارة يصب فى الجانب الفلسطينى وليس المصرى» أضاف عثمان.
ويرى عثمان أن السير فى طريق المصالحة الفلسطينية الفلسطينية بين حركتى حماس وفتح، وعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وتثبيت التهدئة ستؤدى كلها إلى فك الحصار عن قطاع غزة وإقناع المجتمع الدولى بالضغط على إسرائيل لفك الحصار عن القطاع بشكل كامل، «مما يؤدى إلى عودة الأمور إلى طبيعتها لغزة وإنهاء دور الأنفاق والاتجاه إلى خلق تجارة رسمية بين الجانبين المصرى والفلسطينى تصب بشكل تام فى مصلحة الشعبين».
واستبعد عثمان وجود هذا العدد الكبير من الأنفاق الذى يتردد أنه يدور حول 1300 نفق، وقال إن إسرائيل هى التى تقوم بتهويل هذا الرقم، كى تظهر مصر أمام المجتمع الدولى فى مظهر الدولة غير القادرة على حماية حدودها وذلك بهدف استدعاء الضغوط الخارجية على مصر وإضعاف موقف مصر بعد الثورة فى المطالبة بتعديل بعض بنود اتفاقية السلام، «أى أن الموضوع أكبر بكثير من الأنفاق أو قطاع غزة» فالأمر يتعلق بمصر ودورها حسب تعبيره.