كرامة.. حرية.. عدالة اجتماعية.. ثلاثة مطالب بسيطة وأساسية طالب بها المصريون فى واحدة من أروع الثورات الحديثة وهى ذاتها الأهداف الثلاثة التى عملت وتعمل من أجلها الجمعيات الأهلية المصرية والمجتمع المدنى بشكل أوسع على مدى العقود الكثيرة الماضية. ولا يستطيع مُنصف أن ينكر دور الجمعيات على مدى القرن السابق فى معالجة العديد من مشكلات المجتمع المصرى، فقد ساهمت هذه الجمعيات فى جهود إعالة آلاف الأسر الفقيرة، وفى إطلاق مبادرات تدريب الشباب وخلق فرص عمل، إلى جانب كشف انتهاكات حقوق الإنسان ودفع الظلم عن المواطن وكشف الفساد. وقد مارست الجمعيات هذا الدور الحيوى فى ظل قوانين مقيدة وتضييق أمنى، مما أثر على قدرتها على العمل الفعال والوصول لجذور المشكلات التى عملت على معالجتها. ويبلغ عدد الجمعيات 20 ألفا على الأقل منتشرة فى أنحاء الجمهورية. وتشير تقديرات مستقلة إلى أنه يوجد على الأقل نحو 5 ملايين من المصريين يعملون، أو يستفيدون بشكل مباشر وغير مباشر من عمل الجمعيات، مما يجعلها قوة حقيقية من الزاوية الاقتصادية. وتواجه الجمعيات الكثير من التحديات، وأهمها عدم توحد صفوفها، وطبيعة العلاقة مع الحكومة، والتى مازالت تتسم بالوصاية. أما الاتهام الموجه لبعض الجمعيات بأنها تعتمد على تلقى التمويل الأجنبى، فيلزم أن نوضح أن معظم هذه الجمعيات لا يوجد لديها أى بدائل محلية للتمويل يمكن الاعتماد عليها بشكل مستدام. *** ربما تعد الجمعيات الخيرية العاملة فى مجال إطعام المساكين والأيتام أكثر حظا من سواها حيث تعتمد على تبرعات المصريين سواء من الزكاة أو العشور والتى كانت تقدر فى مجملها بين 5 و10 مليارات جنيه مصرى حسب تقدير مركز خدمات التنمية منذ بضع سنوات. ويرجع ذلك لوجود الوازع الدينى وشعور التكافل القوى لدينا كمصريين. يليها حظا الجمعيات العاملة فى مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتى لها بعض البدائل التمويلية المحلية مثل بعض المنح والتبرعات من بعض المؤسسات المصرية أو برامج المسئولية الاجتماعية للشركات- والتى زادت أعدادها وأدوارها فى الأعوام الماضية مع نمو قطاع الأعمال المصرى. أما بالنسبة للجمعيات الحقوقية فتكاد تنعدم لديها أى بدائل أخرى بخلاف التمويل الأجنبى. وكما نعلم فهى الجمعيات التى عانت أشد المعاناة من التقييد والتدخل الأمنى طوال السنوات الماضية لعملها فى مجال كشف الفساد وانتهاكات حقوق المواطن وتعانى حاليا من حملة تشويه وتخوين خطيرة للغاية. ويرجع عدم وجود بدائل تمويل محلية لعدة أسباب ومنها: أولا، يعرقل قانون الجمعيات والمؤسسات رقم 84 لعام 2002 الجمعيات من الوصول للاستقلالية المادية أو التمويل الذاتى عن طريق تأسيس مشروعات خدمية أو انتاجية مثلا من الممكن أن تدر دخلا للمنظمة. ثانيا، أدى تأميم نظام الوقف وإلغاء بعض أنواعه تحت الحكم الناصرى إلى تضاؤل دوره كمصدر أساسى للتمويل المحلى للأنشطة الخيرية والتنموية بدءا من إطعام المساكين لدعم التعليم وبناء الجامعات والبحث والتطوير، إلخ. ثالثا، عدم وجود الوعى الكافى لدينا كمصريين بضرورة وإمكانية توجيه تبرعات الأفراد ذات الدوافع الدينية مثل الزكاة والصدقات والعشور لأهداف تنموية مما أدى إلى اقتصار معظم التبرعات على العمل الاغاثى الطارئ مثل التبرع بالطعام، والذى لا غنى عنه فى كثير من الأحيان، ولكن لابد فى المقابل أن نوجد بدائل كافية لدعم المشروعات التى تعالج جذور المشكلة مثل توفير فرص للكسب الكريم لأصحاب الاحتياج. وفى هذا السياق يعتبر دور التوعية من المسئوليات المهمة والخطيرة التى لابد أن يلعبها إعلامنا المصرى ومؤسساتنا الثقافية والدينية. رابعا، يحتاج قطاع الأعمال فى إطار جعله أكثر مسئولية تجاه المجتمع كما فى باقى الدول التى تنتهج نظام اقتصاد السوق لضوابط وحوافز تشجعه على الدخول فى شراكات حقيقية لدعم الجمعيات وذلك من خلال إعفاءات ضريبية مثلا. بالفعل ينص القانون المصرى على بعض منها ولكن لا يوجد الوعى الكافى بها كما أنها لابد أن تشمل تحفيز التبرعات العينية مثل المعدات أو المنتجات. خامسا، يأتى ذلك كنتاج لعقود طويلة من تخويف رأس المال الوطنى من دعم بعض أنشطة الجمعيات بالذات الحقوقية منها حتى تأمن بطش الأجهزة الأمنية أو خشية أن تفقد علاقات ومصالح مهمة مع الحكومة. توصيات لحل الأزمة أولا، على الجمعيات أن توحد صفوفها وتبدأ التنسيق لوضع رؤية مستقبلية واضحة، تبدأ بإصدار بيان مشترك بالتعاون مع الحكومة المصرية لتوصيل رؤية وطنية للجهات الدولية المانحة، تتعلق بأولويات مصر التنموية ومتطلباتها فى الدعم وشروط مراقبة ذلك لضمان توجيهه للأولويات الوطنية. على أن يعلن البيان الرفض التام لقبول أى دعم أجنبى لا يحترم كامل السيادة المصرية ويحدد آلية عملية لتلقى الدعم الأجنبى تحترم هذه السيادة وتضمن شفافية الإشراف عليه من كل الأطراف المعنية. وأما على المدى المتوسط والطويل فيجب أن تطرح الجمعيات بالتعاون مع الخبراء المعنيين اقتراحات عملية لمراجعة الأطر والتشريعات التى تنظم وتحفز التمويل المحلى مثل الوقف وغيرها. كما يجب أن تصل لمسودة موحدة لقانون بديل لقانون 84 لعام 2002 حيث توجد الآن على الأقل ثلاثة مقترحات منفصلة تدعمها ائتلافات مختلفة ومتنافسة. ثانيا، على الحكومة المصرية تلبية الدعوة للحوار المنظم مع الجمعيات، ويكون هدف هذا الحوار الاتفاق حول، والالتزام بطبيعة العلاقة الجديدة ما بين الحكومة والجمعيات علاقة قوامها الثقة والاحترام المتبادل والشراكة ومراجعة جميع الأطرالقانونية والاجرائية المنظمة لهذه العلاقة. بالإضافة إلى تأسيس آلية رسمية ودائمة للتواصل والتنسيق تضم قيادات الجمعيات. وتوجد نماذج ناجحة لإنشاء مكاتب تنسيقية فى عدة دول فى شرق ووسط أوروبا من الممكن الاستفادة من تجاربها. أخيرا، على الإعلام المصرى توضيح دور المجتمع المدنى ودور الجمعيات التاريخى والحالى ونقل الصورة الحقيقية عنه وتفادى التعميم. كذلك تشجيع دور رأس المال الوطنى فى دعم المبادرات التى تخلق تنمية اقتصادية مستدامة.