أدركت قريش انزلاقها إلى خطأ جسيم يستوجب الإسراع بالفعل والقول لعلها تنجو من هلاك محقق.. نعم لقد خرقت قريش الهدنة، واعتدت على حلفاء محمد.. ولا تنسى أن قريشا فى تلك الآونة قد فقدت مقومات الاستقرار، فالعرب كل العرب علمت ضعف شأنها أمام المسلمين، ودار الندوة قد هجرت فلم يعد لديها ما تتباحث فيه، وكبار رجالها وأهل السلطة فيها قد تركوها وانضموا للإسلام كما رأيت خصوصا خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة... إن الساعات القليلة القادمة ستحمل من الهموم ما لا طاقة لقريش عليه، فليسارع أبو سفيان ابن حرب آخر الزعماء. فليسارع إلى المدينة يجهز لإدارة تلك الأزمة فإما يعرض الدية، وإما يعرض القصاص وإما تجديد العهد وإطالة المدة.. ويشتد أبوسفيان ناحية المدينة، ويسأل عن مأمن يأويه فى الليل حتى يلقى رسول الله فى الصباح... تهديه ذاكرته إلى ابنته التى انجبها ورباها أم حبيبة فقد أصبحت زوجة لرسول الله فيذهب ويطرق الباب عليها.. من الطارق؟ أبو سفيان.. يفتح الباب وتتجمد العيون دون ترحيب، فيحاول استدعاء الكلام بجلوسه على قطعة فراش مجاورة للباب من خارجه.. تسرع أم حبيبة فتجذب الفراش.. أبو سفيان يتعجب.. ما هذا يا بنيتى هل تستكثرين على هذا الفرش الهالك؟ أم ستحضرين خيرا منه؟ تسارع أم حبيبة: لا هذا ولا ذاك، انما هو خاص برسول الله ولا يجلس عليه مشرك... يا أم حبيبة قد ربيتك فأجيرينى كيلا أضيع!! ما كنت لأجير أحدا على رسول الله... وأبوسفيان محاور ومفاوض ماهر لا يكف حتى يحقق بعض ما يريد، هذه الابنة تتشدد بدافع من دينها فليستثمر أبوسفيان تدينها فيقول: يا بنيتى اذا لم أجد الأمان عندك فاصدقينى المشورة. فتقول له لا أجد لك أمانا إلا عند العباس فقد حضر وأهله منذ قريب إلى المدينة مسلمين مؤمنين.. ويبدو أن العباس كان قديم الإسلام لكنه أخر الإعلان ليبقى مكينا فى مكة يعرف ويصد ويرسل بالأخبار للنبى... طرق أبوسفيان باب العباس فاستقبله وأضافه حتى كان الصبح واصطحب العباس ضيفه إلى المسجد وقدمه إلى رسول الله ويتكلم أبو سفيان لكن رسول الله لا يبدو عليه أى اهتمام، فلا قبول ولا رفض لا اهتمام ولا حتى أدنى التفات.. لم يقرأ أحد من الصحابه شيئا فى وجه رسول الله غضبا أو رضا.. ويضطر العباس أن يعيد ضيفه إلى البيت ثم يرجع العباس سائلا رسول الله. وتتوالى التصريحات النبوية تعلم: يا عباس لقد حضر أبوسفيان متأخرا فقد تجهز النبى، وما كان لنبى إذا أعلن الحرب وارتدى زيها أن يرجع... ثم يقول أحد الجلوس.. هممت أن أضرب عنق الرجل.. ويتعجب رسول الله من القول الغريب إذ كيف همّ الرجل ولماذا رجع... فليختبر رسول الله أصحابه ويعرف كيف يفكرون... يسأل رسول الله علن الرجل الذى همّ بقتل أبى سفيان فيقول له.. وما منعك؟ فيجىء الرد غاية فى التعبير عن التزام المؤمنين... يقول الرجل: لم ألمح فى وجهك يا رسول الله ما يدعو لذلك فسكت ورجعت، ولو غمزت بطرفك لفعلت... يحمد الرسول ربه ويبتسم راضيا بانضباط أصحابه ويقول: ما كان لنبى أن يكون له خائنة عين «الغمز».. ويبشر الناس.. اشكروا الله فإن الإيمان يشق طريقه إلى قلب أبى سفيان... ويخص العباس قائلا: تحفظ على صاحبك واحبس خطواتك معه فى منتصف الطريق ليرى جيوش المسلمين فلا تساوره نفسه فيهلك ويهلك أهل مكة معه. ويصحب العباس صاحبه ويرحل حتى اذا كان على مقربة من مكة أناخ الرواحل وشد الخيام وإذا رايات القبائل من حلفاء المسلمين تتوالى كل راية وراءها بين ال200، 1000 مجاهد ثم تظهر كتيبة لا عهد لبلاد العرب بمثيلها قرابة 4000 فارس يحملون السيوف ويلبسون الدروع ولا يبدو من أحدهم غير حدق العين... فيضطرب أبوسفيان: انظر هؤلاء يا عباس هم الروم أو الفرس... وتأت كلمات العباس تحمل الأمن والخوف معا: لا عليك يا أبا سفيان... إنها كتيبة رسول الله من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الكتيبة هى خلاصة القوة الإسلامية المهاجمة وكان أعضاؤها يسمونها «الخضراء» استبشارا بما تصنع من الخير وتجدد الأمل فى النفوس، لكن الأعداء يطلقون عليها «الغبراء» لشدة أثرها فى أنفسهم وفى إثارة غبار الطريق.