«تحسبا لانقطاع الانترنت غدا الجمعة، ننشر هذا العمل ليوم غد».. وردت هذه العبارة بمنتهى البساطة على صفحة «الفن والحرية» السورية على موقع الفيس بوك، ومعها العمل الفنى المشار إليه لعلاء خنجر من الجولان المحتل: خوذة جندى وقد بزغت منها نبتة نضرة، وكتب تحتها «دمك ينبت ثورتنا»، فى تكريم للمجند خالد المصرى الذى لقى حتفه رميا بالرصاص على يد النظام لرفضه اقتحام المسجد العمرى بدرعا. هذه المباشرة الشديدة لا تعد السمة السائدة على الصفحة الفنية التى أنشأتها مجموعة من حوالى ثمانى تشكيليين سوريين ينتمون لأجيال مختلفة، وإن كانت الأعمال تنضح بالثورة والرفض فى كثير من الأحيان. تجاوز عدد اللوحات المعروضة الأربعين، بمعدل لوحة لكل يوم، فالصفحة مفتوحة للفنانين السوريين والعرب، وترحب بكل أشكال التعبير التشكيلية للتضامن مع الشعب السورى، إلا أنها تشترط فقط توقيع الفنان الصريح (لأنه فى حد ذاته فعل تضامن) وأن ترسل لوحات الراغبين فى المشاركة على البريد الإلكترونى ([email protected]) لضمان المستوى الفنى أو الالتزام بنهج الصفحة. مرة أخرى يتم التأكيد على دور الفن الاحتجاجى، فاللوحات ليست وسيلة لتزيين المنازل، كما قال بابلو بيكاسو صاحب لوحة الجورنيكا الخالدة (1937) ضد عنف النازى وقمع فرانكو، «بل أداة حرب ضروس فى وجه العدو». نشعر بحرارة اللوحات، وقسوة الوضع تترجم أحيانا بشاعرية أو تهكم، لكن هناك دوما صدق ثورة الفنانين السوريين على الوحشية والظلم. بعض الأعمال قديم، وبعضها وليد اللحظة، فالفنان منير الشعرانى مثلا قد شارك بلوحتين جديدتين بالخط الكوفى المربع: «لا» و«نعم للديمقراطية»، إلا أنه قد رشح أيضا للمشاركة بالصفحة ثلاث لوحات قديمة من مشروع تخرجه عن القمع والتسلط العسكرى، يرجع تاريخها لأوائل 1977. حول تكوين «نعم للديمقراطية» الذى يتوسط اللوحة، كتبت كلمة سورية، مشكَلة من فسيفساء مواطنيها، اثنيا ودينيا ولا دينيا: الدرزى، العلوى، العلمانى، السنى، الشيعى، الكردى، التركمانى العربى، السريانى.. فسورية متنوعة أكثر من العراق، بيئيا وطبيعيا، بحسب الشعرانى الذى يعلق: «دائما كان لدينا دول مدن لكنها كانت متفاهمة، حتى تحت الحكم العثمانى عندما شهدنا تمييزا لصالح السنة، الشعب كله هب ضد العثمانيين. وحاليا بعض رموز المعارضة البارزين هم من العلويين». ويضيف: «النظام مارس لعبة تخويف طائفى، والمعارضة تسعى للالتفاف على هذه المحاولات، مثلا بتكوين مجموعات تضم عدة طوائف تتحدث مع الناس وتعمل على طمأنتهم». من الصعب فصل الحديث حول اللوحات المعروضة عن الوضع الراهن، فالفنانون فكروا فى البداية بعمل تظاهرة على طريق درعا، لكن لم تتح الفرصة، كما لم يكن ممكنا عرض مثل هذه اللوحات فى إحدى القاعات الخاصة لأن ذلك يستوجب إذنا من مديرية الفنون. (هناك حوالى 32 جاليرى بدمشق، منها 24 قاعة خاصة). لذا كان التوجه نحو الانترنت، ساحة المعارك الفنية والثورية الجديدة! حيث يمكن للمبدع، هذا الطفل المشاغب الذى يطالعنا فى أعلى الصفحة حاملا ريشته، أن يخرج بلسانه للمتسلطين ومحبى الكراسى، تلك التى تشبه ما رسمه محمد عباس، عندما صور كرسيا طويلا يعتليه أرنب مذعور فى حجرة مغلقة، هكذا لعبة الكراسى.. التى تتعارض مع مطالب «متظاهر سلمى للغاية» لياسر الصافى، فرغم كونه سلميا للغاية إلا أن التمثال لم ينج من فجوة فى البطن بفعل الرصاص. لا يتورع الفنانون عن نشر غسيلهم «الوسخ» أو المهترئ كما فعل تمام عزام أو عن تصوير البلاد فى حالة حداد مثل أدوار شهدا أو غيلان الصفدى. عبر العديد من اللوحات تطالعنا نظرات مستجيرة ومليئة بالأسئلة ربما حول الحياة والموت، عيون تحدق فينا مثل «شهيد درعا» ليوسف عبدلكى الذى رسمه بالفحم على الورق بعد أن سقط على الأرض، له العيون نفسها التى تصارع الموت، تلك التى ميزت فى السابق أسماك الفنان المحدقة فى لا شىء فاغرة فمها. وكأننا نسينا وجوهه وأشخاصه وطبيعته الصامتة، فتأتى لوحة أخرى على الصفحة لتذكرنا بموقفه الصارم العذب وأشيائه التى تتجاوز الحضور المباشر، سكين ضخم غرز بعناد وقفت على نصله فراشة، سكين يشبه الصبار أو شواهد القبور. هؤلاء التشكيليين حددوا مواقفهم فى هدوء وصمت، متخذين من اسم الجماعة الفنية المصرية «الفن والحرية» (1939) شعارا لهم، فقد نشأت هذه الجماعة أيضا فى حقبة الفاشية والنازية وسحق الثورة الإسبانية ومحاكمات موسكو الصورية وتسلط الستالينية على المجتمع السوفييتى وسقوط القومية الليبرالية فى مصر.. تسمية مناسبة، فى لحظة شبيهة وفارقة، نسمع فيها أيضا من خلال الانترنت أصوات جلية تغنى من سوريا «زخ رصاص على الناس العزل، يا حيف» (لسميح شقير) أو «ياللا ارحل يا بشار» (للراحل إبراهيم قاشوش) أو «بدنا نملى المعتقلات كرمال الأمة الأسدية» لفرقة الراب (أبطال موسكو الأقوياء).