الرحلة قد تبدأ ربما من قرية شبرا باص مركز السنطة، محافظة الغربية. هنا تبدو المنافسة على أشدها بين أبو مايسة الموظف بالمعاش وجارته الست عايدة. منافسة شرسة بين قطبى البلدة الصغيرة من أجل جلب أكبر عدد من الفتيات للعمل فى بيوت القاهرة، خاصة بعد أن تسللت كثيرات منهن للعمل فى المصانع الوليدة بالقرى المجاورة. لكن «خميرة الشغلانة» مغرية للغاية ولكل شيخ طريقة. لذا سعت عايدة لتطوير نفسها، فاشترت سيارة «خنزيرة» لتجوب بها القرى المحيطة بحثا عن بنات من البيوت الفقيرة تحلمن بتغيير واقعهن بالعمل فى العاصمة. تدخل البيوت بواسطة معارف أو جيران لتتحرى عن البنات، أسرهن، ظروفهن المعيشية. مطالبهن. ثم تقوم بدور همزة الوصل مع «الأسر المضيفة». فالخنزيرة إذن واجبة لزوم الوجاهة أمام الأسر الثرية التى تقوم عايدة بالتفاوض معها. أما أبو مايسة، فهو يلجأ لتكنيك آخر. فعقب تركه لوظيفته الحكومية تفرغ للمسجد المجاور ليكون أكثر قربا من الناس وطرق تفكيرهم وإقناعهم، ويقول: «العمل الشريف ليس عيبا، فلدى دائرة من المعارف، معظمهم من الأسر الكادحة التى تتسرب بناتها من التعليم». مشاويره من وإلى القاهرة تكاد تكون عادة شهرية. «ربنا لا يقطعها» أو هكذا يضيف خوفا من الحسد. فمن المألوف أن تراه بلحيته الصغيرة المصبوغة بالحناء الحمراء وقامته القصيرة الممتلئة مصطحبا أختين ليوصل كلا منهما إلى أحد البيوت التى يتعامل معها منذ أكثر من عشرين عاما. وهو لا يسعى لتوسيع دائرة معارفه «كغريمته» عايدة، فمشكلات المهنة كثيرة ومتداخلة قد تقوده لمتاهات. ولكن إذا كانت الرحلة قد بدأت من قرية شبراباص، فربما نحتاج لقطع مئات الكيلومترات لسبر أغوار سوق «معاونات المنزل» الذى يشكل أشخاص مثل أبومايسة وعايدة أولى درجاته وأرخصها. فأجر خادمة ريفية صغيرة يبدأ من 400 جنيه شهريا، لكن هذا السعر قد يبدو شبه مستحيل فى حالة اللجوء لأحد مكاتب القاهرة حيث تأخذ الخدمة شكلا رسميا وأكثر تنظيما. ففى كنيسة العذراء الأميرية، تعد السيدة سناء عبد الملاك أحد الوجوه المعروفة لدى الكثيرات من ربات البيوت المترددات على المكان. فتحت شعار «فتح بيوت الغلابة» تعمل الكنيسة منذ أكثر من 12 عاما على إيجاد فرص عمل للنساء البسيطات لدى الأسر المتيسرة. وتقول السيدة سناء: «الخدمة ليست حكرا على الأسر المسيحية فقط، المهم أن تأتى لنا الأسر المسلمة من خلال ترشيح من أسر مسيحية تتردد على الكنيسة». اشتهرت كنيسة العذراء الأميرية بتقديم هذه الخدمة فترددت عليها الباحثات عن عمل وتحديدا على مكتب التوظيف الملحق بالكنيسة، إلا أن السيدة سناء التى عملت فى مجال تنمية العشوائيات لسنوات عبر الجمعيات الأهلية القبطية استفادت أيضا من حصيلة معارفها لاختيار المتعاونين معها. وهى توضح طبيعة عملها: «كثيرات من البنات رغم فقرهن لا يحبذن العمل فى هذه الشغلانة رغم دخلها المجزى. أحاول أن أقنعهن بأن ذلك أفضل من السير فى طرق بطالة. كذلك أسعى لاكتساب ثقة الأزواج والآباء، فوجودى داخل مؤسسة دينية يضفى على عملى احتراما. هناك من ترفض الإعلان عن طبيعة عملها حتى لأقرب الناس إليها، فتطلب منى أحيانا أخت ألا أفشى سرها لشقيقتها». العمل داخل المكتب يتم من خلال تقديم استمارات يملأها الطرفان. بعد ذلك تكلف مجموعة من فريق العمل بالنزول إلى الميدان لدراسة حالة الراغبات فى العمل والتأكد من صدق بياناتهن بعد أخذ صورة من البطاقة الشخصية. تضيف سناء: « بعد ذلك نطلب منها خطابا باعترافها. وما إذا كانت تنتمى لبعض الطوائف التى لا تمارس هذه الشعائر أو كانت مسلمة على سبيل المثال نطلب منها إجراء فيش وتشبيه». فى المقابل يقوم مكتب التوظيف بالاستعلام عن الأسر التى ستعمل لديها المتقدمة ويتم بعد ذلك توفيق رغبات الأطراف المختلفة. عمالة أجنبية ومن كنيسة العذراء إلى قلب العاصمة، تتعدد مكاتب «التخديم» ونوعياتها. «هناك نسبة لا بأس بها من هذه المكاتب غير جادة، لذا فالسؤال عن المكتب قبل التعامل معه يعتبر أساسيا حتى لا تشترى الترماى!» هذا ما استخلصته هدى عن تجربة، إلا أن التعامل مع بعض المكاتب قد يكون ضرورة للراغبين فى الحصول على خادمة أجنبية بصورة مضمونة. تقول السيدة سلوى زوجة أحد رجال الأعمال التى تستجلب عاملات من شرق آسيا . إن القانون المصرى يسمح لبعض أصحاب المشروعات بالاستعانة بالأجنبية بشرط حصول صاحب العمل على تصريح عمل وأن يثبت أنه لا يوجد بديل مصرى يوفر نفس الخدمات، وعلى العامل الأجنبى كذلك تدريب بديل مصرى يحل محله بعد عام. أيضا لابد من التأكد من دخول العامل الأجنبى البلاد بصورة شرعية ويتم ذلك بالتنسيق مع وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية. ويجب ألا يزيد عدد العمالة الأجنبية على 10% من العمالة المصرية فى أى شركة أو مصنع. تقوم إذن بعض مكاتب «التخديم» بتخليص وتلخيص كل هذه الإجراءات أو تجاهل القانون تماما. فتتعرف على أماكن تجمعات الجاليات الفقيرة من السودانيين على سبيل المثال فى عين شمس والكيلو أربعة ونصف، الذين عادة ما يدخلون مصر على سبيل السياحة ويبقون فيها بعد انتهاء مدة إقامتهم، وتستثمر ظروفهم لصالحها. يقول أحد أصحاب هذه المكاتب الذى رفض ذكر اسمه أن هذه النوعية من العمالة عادة ما يكون سعرها أقل من مثيلاتها التى تدخل البلاد بشكل رسمى. ثم يوضح: « التعامل معهم يشكل نوعا من المخاطرة لذا نلجأ لسحب جوازات السفر حتى نتمكن من السيطرة على الموقف». كله بثمنه.. من ناحية أخرى، تؤكد السيدة هالة التى جربت على مدار حياتها الزوجية أكثر من سبع شغالات عن طريق «المخدماتية» والمكاتب والكنيسة أن لكل مميزاته. «المخدماتى الريفى قد يوفر خدمة أرخص، لكنه قد لا يسعف إذا تركتنى البنت التى تعمل لدى فجأة، أما فى حالة اللجوء لمكاتب معتمدة أستطيع مراجعاتها إذا ما حدثت سرقة أو أى خلاف، ولذلك سعره غال». ولعل السعر يبقى محطة مهمة من الضرورى التوقف عندها أثناء رحلة البحث. إذ تختلف وسائل المحاسبة من مكان إلى آخر تبعا لحجم البيزنس. وإذا كانت الست عايدة قد وضعت نظاما صارما للتعامل يقضى بأن تأخذ سنويا شهرا من مرتب الخادمة كوسيلة لضمان بقائها عاما آخر. فإن الأسر ترضخ لها خوفا من أن «تطير الفرخة من القفص» و«حتى لا تلعب السيدة من تحت لتحت وتغرى البنت بالذهاب لبيت آخر». كما أن مكافأة الست عايدة بمناسبة الأعياد «فرض مش سنة »لأنها كاتمة أسرار البنات، وأسر القرية حيث يفضل الكثيرات عدم البوح بطبيعة عملهن خوفا من تقليل فرص الزواج أو المعايرة لتولى البنات الإنفاق على البيت»، كما تقول عزة 16 سنة خادمة من إحدى قرى المنوفية. فضلا عن ذلك تقوم الست عايدة بنقل البنات بسيارتها الخاصة وتدبر لهن مكانا للمبيت فى منزلها قبل ذهابهن لمكان عملهن. ولأن أبو مايسة لا يمتلك مثل هذه الإمكانات فهو يكتفى بمرتب شهر يقبضه بعد مرور حوالى ثلاثة أشهر من تاريخ تسلم العمل، بعد أن تكون الأسرة ارتاحت مع الخادمة واستقرت عليها. تقول أميرة، التى تعاملت مع بعض الكنائس والمكاتب، «طرق الحساب تختلف، فهناك من يحصل على مرتب شهر مرة واحدة كل عام، وهناك من يحصل على نسبة ثابتة من المرتب تصل إلى 10٪ من مرتب الخادمة». فى حين تؤكد «ميس سناء» كما يطلق عليها البعض أن مكتب التوظيف بالكنيسة يعكف على تقديم الحد الأدنى من الحقوق للعاملين: «فنحن نرسل محصلا ليتسلم رواتب العاملات خاصة إن تملصت بعض الأسر من الدفع بحجة أن البنت كسرت تحفة غالية الثمن مثلا. ونحاول أيضا أن نجبر الأسر على ألا تزيد ساعات العمل على 8 ساعات يوميا، إضافة إلى يومى راحة». وسط هذه القنوات المتعددة تنشأ سوق أخرى تحتية، فهناء الفتاة الصعيدية، التى تربت وعملت لدى إحدى الأسر القاهرية، رضخت لعرض أحد «المكوجية» الذى أقنعها بالانتقال للعمل لدى أسرة أخرى مقابل مرتب أعلى. فعلى السلالم وفى المصاعد تجرى مفاوضات أخرى فرعية قد تفضى إلى حركة تنقلات وفرص أفضل. التسعيرة تختلف أسعار الخادمات حسب نوع الخدمة ومدة الإقامة وسن الخادمة. فالأسعار تبدأ من 400 جنيه للمراهقة الريفية المقيمة. وتتراوح ما بين 700 و1500 جنيه للخادمة المقيمة التى يزيد عمرها على ال16 عاما. وترتفع أجرة من تتقن فنون الطبخ عن الأخريات لأنهن ببساطة تتوجهن لشريحة اجتماعية أعلى، فيبدأ السعر عادة من 1200جنيه. كما يصل أجر الخادمة التى تعمل باليومية وتقوم عادة بأعمال التنظيف إلى 50 و60 جنيها. ويتراوح أجر جليسة المسن بين 1000 إلى 1500 جنيه حسب عدد النوبات وساعات العمل. أما أسعار الأجنبيات فعادة ما يكون بالعملة الصعبة ويبدأ من 300 دولار وإن كان أجر بعضهن خاصة من الإثيوبيات يصل أحيانا إلى ثلاثة آلاف جنيه، فبعض الأسر تفضل التعامل مع هؤلاء ليتقن أبناؤهن التحدث بالإنجليزية.