السابعة صباحا تعلن قدومى الميدان،أمارس طقس التجول بين المعتصمين ، يتجمع الشعب ،تبيت أسر كاملة فى الميدان ،بيدى لفة سندوتشات فول وطعمية ،أوزع السندوتشات على بعض الجالسين على الأرصفة ، أختار موضعا مواجها للشمس ،أقعد قارئا عناوين الصحف،والتى أحرص على شرائها لفرشها أثناء الصلاة: - دعك من إلفاظ القص المعتادة؛اعبر إلى سبيل التحررمن أسوار اللغة وسجون العبارات المنمقة. - منذ سنوات تعبث بالأحرف والكلمات ؛ترص الأدوات دون أن تغوص فى قاع هذا الأنسان، الذى يقطن هذه الأرض. -يبوح بإحزانه ،لا أحد ينصت أو يسمع! - يصرخ ،الآذان معطلة! أقلق ، أتوتر؛ أشعة الشمس تصيبنى بالخدر، تهمرنى خيالات وخيالات: ( جموع الناس تذهب وتجئ ،الحناجر تأز بالنداءات،ها هم أناس آخرون يقفون فوق كوبرى السادس من أكتوبر،المار فوق ميدان عبد المنعم رياض،يتشبثون بشعارات نسمعها منذ سنوات ،حشرجات تقيم حواجز الإيهام بأستمرار النظام ،أربابهم ينتصبون وأيديهم مدججة بالسيوف والبلط والمطاوى والجنازير،فوق أسطح العمارات المواجهةللمتحف يشعلون الزجاجات الحارقة، تنهمر الزجاجات فوق رؤوس المحتشدين بالميدان والصارخين برعب حقيقى : -سلمية..سلمية. الحجارة تتساقط فوق هاماتنا كالأمطار، قنابل المولوتوف تمنع تقد منا تماما، فوق المتحف قنا صة يصوبون بنا دقهم لصدورنا ، تتشابك أذرعنا كأ عضان الورد ، الشباب يقفزون في الميدان يحملون الجرحي ،الأئمة يصرخون عبر مكبرات الصوت: -حي علي الجهاد ........... حي علي الجهاد. الشيوخ يكسرون بلاط أرصفة الميدان،الأقل عمرا يفتتون البلاط إلي حجارة صغيرة الحجم ، البنات والنساء تحملن الماء والخل إلي الصفوف الأمامية ، صيحات الله اكبر تشق عنان السماء. بيدى أربع حجارة ،أتحرك كالمغشى عليه ،لا أدرى ماذا أفعل؟ -أأضرب ؟أأتراجع؟أأملأالجاكت بالطوب وأحملهإلى الطليعة ؟ -يا الله ؛ماذا أفعل ؟الوقت وقت موت ودمار ولا نجاة من قبضته ومازال التردد يكتنفك! يتساقط الشهداء؛ الشهيد يلى الشهيد ) أنكفئ فوق فنجان القهوة ، زوجتى تهرول لحملى ولكن يفلت أمرى ،الزبد الأبيض يدثر وجهى ،تكتنفنى الغيبوبة ،طال الوقت أم قصر لا أدرى! أتحسس جبهتى ،ما هذا الشئ الغريب؟ ضمادة ضخمة تعصب جبهتى،الأصوات تتعالى : ( -يسرقون المتحف. النائحة تعدد المآثر: -يا جمل الحمول يا سبع. موجات هادرة من الهجوم المرتبك؛كر؛فر،يعنف القتال،مازالت الهواجس تكبلنى،بنت( تى شرتية) تحتضن صرة الطوب. -ما بالك أيها المعتوه؟ تبا لكل آيات الجنس ،سحقا لكل شهوات النظر،يداى قابضتان على الحجارة،أطباء الميدان ينتشرون كالفراشات ،يجوبون الساحة بالأسعافات الأولية ،يحملون أكياس القطن،وزجاجات الميكوكروم والمطهرات،لا يهابون روائح الموت المنتشرة فى شتى الأرجاء،صوت أمى المنكسر ينغز أذنى: - مات أبوك يا فقرى. أكاد أتهاوى من الأعياء،محمد يسندنى . - لماذا حضرت فى هذا الوقت؟ألتلقى حتفك؟ونحملك فوق الأكتاف ونستجير: - دم الشهيد بيننا وبينك. يسجل بهاتفه المحمول المعركة الدائرة ،أنتفض: - لن أسقط الآن ،فالوقت مازال طويلا. جحافل السلطان يقتحمون الميدان،الشباب يتمترس،الأصوات تتماس: - الجبان جبان والجدع جدع ..وأنا شهيد الميدان. - الموت يحيق بنا من كل الأتجاهات،هرولة وزعيق: - سابنى الشهيد وعالبالطو دمه..فدانى بروحه ووهبلى عمره. كتل بشرية تندفع إلى مركز الميدان ،تهطل من جهة عبد المنعم رياض،أرتياع يحرك الجميع،القلوب واجفة،الإرادات هلعة،المحتجون لا يعون من أين سيقتنصهم الموت،الهلاك يصب ويلاته من فوق العمارات والمتحف المصرى والكوبرى ،الحظ وحده يحدد نوع الإداة ،يمكنك أن تموت بحجر مدبب حملته سيارات الأمن المركزى وبعض ناقلات شركات البترول ،ربما تكون محظوظا فتهرب روحك بطلق نارى لقناص يختبئ خلف الشرفات ،ربما تكون شقيا فتتفحم أسفل حمم المولوتوف،الأندفعات البشرية تزداد والأغبرة تؤطر اللوحة بالضبابية،جمل يبرطع مهتاجا ،ينفث عن غيظه وكمده مخترقا الجموع الحانقة،يتبعه حصان أحمر وآخر أسود وفى ذيلهم ثالث أبيض،عبقرية الخيال تجسد واقعا سرياليا ؛لا أعرف معنى مادى لكلمة سريالى ولكن هذا من لزوميات القص ،مهما بلغ بك الجنوح لن تتمكن من إجتزاء مكونات المشهد؛ركلات ،صيحات ،أتربة ،أدخنة ،طلقات نارية ،غازات مسيلة للدموع ،قنابل حارقة ،الأيادى تنتزع فرسان القرن الحادى والعشرين قبل الميلاد من على صهوة دوابهم،مرجل القهر المتراكم منذ ثلاثين عاما ينفجر،ذعر،أضطراب،أناس يجرون جوار السور المتاخم لمعدات المقاولون العرب،الدبابات المنتكسة لا تبرح موضعها ،يتكاثر الجرحى ،تعلن مكبرات الصوت: - القبض على لواء شرطة. - الأمساك بعميدين وخمس وثلاثين أمين شرطة رقمهم القومى هو... - مداخل القصر العينى والجامعة الأمريكية وطلعت حرب وشامبليون وقصر النيل يعوزها متطوعين لمقاومة الهجوم. - الأصوات تتوحد: - ارحل يا نيرون العصر ..ارحل قبل ما تولع مصر. أصرخ : - أين أنت يا محمد؟ ) أنهض متثاقلا،ألج غرفة الأولاد،بالحجرة عشرات الكراتين المملوءة بالكتب،أقلب الكتب ،تشدنى العناوين ،لا أفتح كتابا؛فالبال مشغول ،والعقل راكد،منذ الصغر أعشق الروايات،لعلى أجد فيها أنسانا يقاربنى؛يخزن الأحداث والوقائع فى عقل يموج بالغليان،النار تزنهر،الأبخرة تتصاعد ،أنصهار الأحداث والوقائع واقع لا محالة،أحاول أستكشاف شخص لا تبرز ردة فعله إلا بعد أيام وأيام،وكأن المشاهد لا شواهد لها. ها أنا معصوب الجبين ألتمس طريقى إلى فراش الأولاد المحتل ثلث الغرفة الصغيرة،أتهاوى فوق السرير ككيس محشو بالخرق البالية ،أغمض عينى ،تترى المشاهد: (محمد يصيح فى وجه القائد العسكرى: -لماذا لا تدافعون عنا ؟ ببرود يرد الضابط: - أنتم مصريون وهم مصريون. - يسخر محمد : - ضعوا حاجزا بيننا وبينهم. - يتجاهل الضابط المطالب ،يتحرك محمد كالأبله ،لا يدرك تماما ما الأمر،يدنو،يقول: -هناك ضابط مباحث أمن دولة مع القائد العسكرى. الهتافات تشق الهلع : -أمن الدولة ..يا أمن الدولة ..فين الأمن ..وفين الدولة؟ الأكتاف تتزاحم،الصراع يشتد ،ضرب ودماء ،زئير وأنين ،القتال يحتد ،كميات الحجارة التى يقذفها المهاجمون لا تنفد ،يتكسر أتوبيس ملئ بالجنود ويتوسط الدبابات الأربع ،والجنود لا يغادرون مطرحهم ،سيارات عملاقة كالحة اللون حبلى بأكياس الحجارة المسنونة ،أقطع الميدان فى خطوات متسارعة ،الصورة عند مدخل قصر النيل لا تختلف عنها عند بوابة عبد المنعم رياض،الآن ترسخ فى عقلى المضطرب أن للحرية والكرامة ثمنها الباهظ .المناوشات النقاشية تفترسنى ؛وكأن الوقت وقت حوار: - أنا حر. - إدعاء. - لا تهول الأمر. - لماذا يسعى هؤلاء لسفك دمنا؟ - للمال. -بل يتجيشون لنزع فتيل الكرامة. -ما أيسر التبريرات فى سوق الفزع. - ما أبشع كتب الوهم! - أكرر أنا حر. - بل أنت متخاذل متقوقع ،تخشى تيار الهواء. - لا تفت الوهن فى عضدى. - جمل وخنجر لصدر كل متظاهر. - طلق نارى وضربة جنزير لكل متردد. - أتظن أنهم سينتصرون؟ - صراع الإرادة فى الميدان سيحسمه الأعتقاد.) - أشعة الشمس تتساقط عمودية على رأسى ،كاد نافوخى أن يشتعل ،الآن حان وقت التجول ،أطوى الصحيفة ،أدسها فى جيب الجاكت ،أهتف : - الشعب يريد أسقاط النظام .