لم أكن فى حاجة إلى ثورة للمطالبة بإصلاحات رياضية، وهو ما تناولته على مدى أكثر من ثلاثين عاما.. ولم أكن فى حاجة إلى ثورة كى أتحدث عن إصلاح الإعلام الرياضى.. وهو ما تناولته هنا فى سلسلة مقالات قبل عامين تحت عنوان «قضية هذا الصيف»، وقلت أنه من سوء حظ هذا الإعلام أن ساحة الرياضة مشهودة، وتحظى بأكبر قدر من المتابعة. وأن الرأى العام الذى يتابع الرياضة يختلف بشدة، وينقسم بقوة.. وأن هذا الإعلام متهم بالاستخفاف، والاستهزاء، والاستذكاء بعقول الناس..وأن غياب المهنية تجعل بعض الإعلاميين مشجعين ، وتجعل بعضهم من أبرع راكبى الأمواج.. ولعل ذلك كله يتغير بعد الثورة.. أيضا تناولنا الفساد فى الرياضة كثيرا، وهو ليس بالضرورة فسادا ماليا يمس الذمم. فهناك فساد العقول، وعدم قدرتها على اتخاذ القرار. وأخطر فساد هو ضياع الأخلاق. ومن السهل الآن أن نطالب بإقالة جميع الاتحادات، وبتغيير جميع الوجوه التى تطبق على أنفاس الرياضة المصرية.. وهو أمر نتركه مؤقتا، إذ سوف تفرضه رياح الثورة فى المستقبل القريب.. لكن يبقى أن تكون الدعوة لأى إصلاح مصحوبة ببرنامج وبحلول، بدلا من تلك الخطب والأناشيد التى يختلط فيها فى بعض الأحيان الجد بالهزل. وادعاء العلم بالجهل.. أن نعرف ونفهم كيف فزنا ولماذا.. أو كيف خسرنا ولماذا.. فإن ذلك من أولى مراحل الإصلاح والتطور فى أى مجال بما فى ذلك الرياضة.. وعقب انتهاء أى بطولة لكأس العالم تصيغ لجنة فنية تابعة للاتحاد الدولى تقريرها الفنى الكامل. والأمر نفسه يجرى فى البطولات الإفريقية بواسطة الاتحاد الإفريقى. وعلى الرغم من تحقيق المنتخب المصرى معجزة الفوز بكأس القارة ثلاث مرات على التوالى، وللمرة السابعة فى تاريخه. لم نعلم بصدور تقرير فنى يفسر أسباب تفوق الفريق بحياد وبموضوعية، وكثيرا ما تساءلنا ما هى أسلحة اللاعب المصرى فى مواجهة نظيره الإفريقى.. كيف يفوز منتخب من المحليين على منتخبات من أبرز المحترفين؟ هل تراجعت مستويات المنتخبات الإفريقية أم تقدم مستوانا؟ هل حقا نحن لا نجيد اللعب فى التصفيات ذهابا وعودة.. ونحتاج دائما لبطولات مجمعة ومعسكرات مسبقة للفوز ببطولات؟ هل تحققت تلك الانتصارات المتتالية للمنتخب لتوافر جيل من المواهب؟ ما هى طرق اللعب التى نتبعها. ولماذا؟ أسئلة كثيرة طرحت ولامن إجابة.. وقد اعتدنا على الأذان فى مالطا.. لكننى أظن انه آن الأوان للتغيير الحقيقى والتعامل مع كرة القدم باحترافية وباعتبارها صناعة. ●● فى إطار الاجتهاد وضعنا بعض التفسيرات، فقد حققت الكرة المصرية إنجازاتها السابقة بالريادة فى الممارسة وبالتاريخ، فوصل المنتخب الوطنى إلى مونديال إيطاليا 1934 بعد مباراتين مع فلسطين، وفازت مصر بكأس الأمم الإفريقية مرتين متتاليتين بعد نهائيات شاركت بها إثيوبيا والسودان فى عامى 1957 و1959، لكن عندما بدأت إفريقيا تلعب كرة القدم بدأنا نعرف المعاناة فى إحراز البطولات، حتى بطولة 1986 بالقاهرة التى توجنا فيها أبطالا للقارة بفضل ضربة جزاء ضيعها لاعب الكاميرون كانا.. وكانت المنتخبات المصرية تتعثر وكذلك الأندية فى نهاية الستينيات وسنوات السبعينيات، لأن اللعبة غارقة فى المحلية ومستغرقة فيها، ولأن الاتصال المعرفى بما يجرى فى العالم يكاد يكون غائبا تماما، وهذا بجانب سوء التدريب والإعداد، وعدم استخدام الوسائل الحديثة، والجديد من معلومات، وكذلك عدم قدرة اللاعب المصرى أو المدرب على مواجهة القوة الإفريقية، أو ما كانت تسمى «كرة قبائل البانتو».. ●● كانت بطولة 1998 إنجازا حقيقيا ينسب لجيل ولمدرب هذا الجيل محمود الجوهرى.. وارتبط النجاح المصرى فى إفريقيا فيما بعد بنجاح الأندية بدءا من 12 ديسمبر عام 1982 حين أحرز الأهلى بطولة القارة لأبطال الدورى، وتوالت بعدها إنتصارات الفرق المصرية فى إفريقيا حتى أصبحت هى صاحبة الرصيد الأكبر.. وذلك بعد مراحل صعبة فى سنوات الستينيات والسبعينيات.. وكان من أهم تفسيرات انتصارات الكرة المصرية على مستوى الأندية هو استخدام جيد لتكتيكات اللعب ذهابا وعودة كأنها مباراة واحدة من شوطين. ويحسب ذلك للجوهرى. ثم ضعف مستوى البطولات المحلية الإفريقية وإخلاء القارة من مواهبها بسبب موجات الاحتراف. ●● على مستوى المنتخب.. بدءا من عام 2006 شهدت الكرة المصرية أن أهم أسلحة اللاعب المصرى هى الرشاقة والخفة والمرونة والسرعة، وامتلاك الكرة بالتمرير والسيطرة على الملعب بتبادلها، وقلنا إن ذلك كان قريبا من الإسلوب الإسبانى وفريق برشلونة. حيث يعوض الإسبان ضعف القوة البدنية وقصر القامة بأسلوب «تيكا تاكا» وقد أفضنا فى شرحه..وهو اختصار، استقبل، ومرر، وتحرك.. ويضاف إلى ذلك الدافع الوطنى عند اللاعب المصرى. ●● فى جميع الأحوال لابد أن نتعلم من تجارب الآخرين، ونحن نطرحها كأحد الحلول الممكنة للإصلاح البعيد والطويل الذى يحتاج إلى جهد سنوات، ومن أهم التجارب العالمية فى مجال كرة القدم فى هذا الشأن تجربة الكرة الفرنسية التى جمعت بين نتائج المنتخب الأول وارتفاع مستوى المسابقات المحلية وإنتشار المدربين واللاعبين الفرنسيين فى العالم بعد سنوات طوال عاشت فيها الكرة الفرنسية فى الظلام. وهناك تفاصيل دقيقة عن هذا النجاح ونكتفى ببعض ملامحه لعله ينير الطريق أمام من يقودون دفة كرة القدم عالميا.. المعهد الفرنسى لكرة القدم (كلير فونتاين) خطط له من 30 عاما للنهوض باللعبة وهو مثل جامعات أكسفورد وكامبريدج وهارفارد ويعد المركز القومى للمنتخبات الوطنية وبه تسعة ملاعب ومجهز على أعلى مستوى. وجيرار هولييه من رواد نهضة الكرة الفرنسية وكان مديرا فنيا فى الاتحاد الفرنسى لكرة القدم قبل عام 1990. واهتم بالناشئين وهو اكتشف تيرى هنرى وتريزيجيه وفييرا وأنيلكا وكانت سياسته هى البحث عن المواهب واكتشافها. واعتمد سياسة التدريب التصاعدى من 12 إلى 15 سنة ومن 15 إلى 19 سنة على أن تكون هناك مرافق التدريب. وكان كل ناد يملك مايسمى بمركز تكوين اللاعبين فى سن ال16 ولكنه أنشأ مراكز إعداد للصغار من سن 12 سنة ونظم لهم تدريبا يوميا وصقل المهارات الفنية خلال 3 سنوات وهو مشروع الأرشاد الأساسى لتطوير النشآت فى فرنسا وتم إنشاء 7 مراكز تابعة للاتحاد وطبقتها الأندية الفرنسية فيما بعد لتدريب الصغار بلاعبين سابقين فالصغار فى حاجة إلى مدربين مقنعين. وكان التدريب فى السابق يركز على اللمسة الواحدة للكرة والتمرير والتحرك ولكن هولييه رأى أنه يجب أن نسمح لهؤلاء الصغار بتقديم ما لديهم من مهارات وإبداع ومبادرة واللاعبون المدربون جيدا يحتاجون لمدربين أفضل. هل تنتشر هذه الأفكار والأساليب فى ملاعبنا..إن الإصلاح الحقيقى فى الرياضة أو فى غير الرياضة.. إن يعمل كل إنسان بإحتراف، وأن يؤدى كل مواطن عمله بإتقان، وأن يفعل ذلك يوميا، فلا يعمل يوما ويرتاح أسبوعا.. إن معالجة الانهيار الأخلاقى، وإقصاء الجهلاء الذين يحتلون مواقع القيادة، ومواجهة فساد الذمم وغياب الضمير هو بداية أى إصلاح.. وتلك كما ذكرنا ألف مرة قضية أشخاص، قبل أن تكون قضية لوائح وقوانين؟!