شهدت الشوارع فى الأيام القليلة الماضية محاولات هستيرية للانتحار حرقا على طريقة بوعزيزى مفجر الثورة الشعبية فى تونس، ووصلت خلال ثلاثة ايام فقط إلى أكثر من 15 حالة، تمكنت الشرطة من إحباط العديد منها. ولأسباب عديدة، اتخذ المنتحرون من شارع مجلس الشعب مسرحا لمحاولات انتحارهم ورفع صوتهم إلى قبة البرلمان، لتحقيق بعض المطالب كالمحامى الذى اختفت نجلته فجأة ويريد من الشرطة أن تعيدها له، والبعض الآخر كان مريضا نفسيا مثل صاحب مطعم الإسماعيلية والزوجة التى أحرقت نفسها بالخليفة وآخرين كانوا يعيشون حياة صعبة وضاقت بهم الدنيا مثل سائق المرج الذى كان يمر بضائقة مالية وشنق نفسه للتخلص من ديونه. ووسط حالات الانتحار التى أراد أصحابها الإثارة وجذب الانتباه ومحاولة إثارة حالة من البلبلة فى مصر كان بينهم السائق سعيد عبدالفتاح، 70 سنة، الذى ترك أولاده وبينهم طالبة جامعية وأحضر زجاجة البنزين وولاعة وقبل أن يصل إلى شارع مجلس الشعب ليشعل النار فى نفسه معلنا مغادرته للحياة، أجرى عدة اتصالات تليفونية بالقنوات الفضائية لتسجيل لحظة انتحاره بالصوت والصورة، وكان من بين من اتصل بهم محرر «الشروق»، ولكن جاءت ترتيباته على عكس توقعاته بعدما أبلغ عنه محرر «الشروق» أجهزة الأمن بالقاهرة بمواصفات ملابسه والمكان الذى كان يقف فيه بالضبط، وتم إنقاذه قبل انتحاره بدقائق ووصول كاميرات الفضائيات وتم نقله فى سيارة الشرطة إلى قسم شرطة قصر النيل وتم التحفظ على زجاجة البنزين والولاعة التى كانت بحوزته، وقررت النيابة إخلاء سبيله بضمان محل إقامته بعدما تيقنت النيابة من الأوراق التى قدمها إليها تفيد بانه يعيش مأساة حقيقية وأنه بالفعل رجل مطحون. التقت «الشروق» بالسائق بعد الإفراج عنه من سراى النيابة وكان فى حالة بائسة رغم شعوره بالندم..وقال: تخطيت السبعين عاما وأصبت بأمراض مزمنة ولا أقدر على العمل، وكان عندى تاكسى أسترزق منه وكانت حياتى مستقرة فى ذلك الوقت وفجأه توفيت زوجتى الأولى وعندى منها بنتان و3 أولاد، ولان أحوالى المالية كانت جيدة جدا، فقررت الزواج من سيدة أخرى وأنجبت منها 4 أبناء آخرين وقمت بتزويج البنات وكل ابن من أولادى الكبار اخذ طريقه وتحمل مسئوليته، وبقيت أنا وأولادى الصغار فى شقتى بشبرا وفجأة تدهورت صحتى وفشلت فى العمل ليلا أو نهارا كما كان يحدث فى الماضى وجلست فى البيت وتركت التاكسى لأحد السائقين للاستفادة منه ولكن لم احصل منه على الكثير، وضاقت بى الدنيا وتركتنى زوجتى الثانية وتركت لى أبنائى وعادت إلى أهلها. ويكمل حديثه باكيا: اضطررت لبيع التاكسى ووجدت نفسى أعيش على معاش شهرى صغير لا يكفى شراء عيش حاف لأولادى، فطرقت جميع الأبواب ودون جدوى وقد دمر صحتى مرض السكر والضغط وبدأت أسعى وراء خطابات العلاج على نفقة الدولة، وأنا أكاد أتسول قوت يومى لكى أوفر الطعام لأولادى وهم كلهم متفوقون فى دراساتهم، ووجدت نفسى عاجزا أمام تفوقهم وذكائهم وأنه ليس لى فائدة فى الحياة، وشعرت أننى مجرد أب على الورق فقط، واضطررت إلى مناشدة المسئولين عن طريق نشر مأساتى فى أكثر من 22 صحيفة على مدار عامين حتى يرد على واحد منهم، دون جدوى. ويضيف سعيد: سمعت عن الثورة التونسية وبوعزيزى الذى أحرق نفسه واشتعلت الثورة فأعجبنى الرجل فقررت أن أضحى بنفسى من أجل أولادى والكثيرين مثلى من الشعب الذين لم يجدوا قوت يومهم وهؤلاء كثيرون فى مصر وتقابلت مع الكثير منهم وعرفت ان المثل الشعبى الشهير الذى يقول «مافيش حد بينام من غير عشا» قد انتهى فعليا فى مصر فى السنوات الأخيره لأن هناك آلافا ينامون بدون عشاء وأنا وأولادى أولهم، وكنت أريد أن أنبه الحكومة لذلك، وأقدمت على الانتحار امام مجلس الشعب لكى يصل صوتى بسرعة إلى المسئولين، واجريت اتصالات بالفضائيات حتى يكون انتحارى بالصوت والصورة أمام الجميع. وانا لا أسعى وراء الشهرة أو أى شىء آخر ولكنى أريد فقط ان يعيش اولادى بشكل طبيعى. وأثناء محاولتى الانتحار ألقى القبض على واقتادونى إلى النيابة وأثناء التحقيق مع قدم لى رئيس النيابة واعضاء نيابة قصر النيل مبلغا من المال وقام مأمور قسم قصر النيل ونائبة باستضافتى وتهدئه ثورتى وانا أشكرهم على رعايتهم لى، وعرفت أن مصر بخير والانتحار ليس سبيلا للمطالب وعدت إلى أولادى احتضنهم من جديد نادما على فعلتى ومحاوله الانتحار وأتمنى ألا يفعل غيرى ما فعلته لأنه حرام ومصر آمنة بأهلها. الطب النفسى وعن ارتفاع معدلات الانتحار فى الأيام الماضية يقول الدكتور محمد المهدى استاذ الطب النفسى بجامعه الأزهر، إن بوعزيزى مفجر الثورة فى تونس أعطى للمنتحرين لمسة من التمجيد والتعظيم، ووضع صورة براقة للمنتحر باعتباره الإنسان المحبط من كل شىء إلى إنسان عظيم وقادر أن يغير بنفسه ما فشلت فيه كل القوى السياسية على مدار السنين فى تونس وقد جعل ذلك من بعض المهووسين بالانتحار يقدمون على مثل هذا الفعل وبنفس الطريقه أملا فى الخروج من الدنيا وكانهم ابطال على المستوى القومى. ويضيف: لكن الغريب فى حالات محاولة الانتحار الأخيرة أمام مجلس الشعب ان حياتهم ليست بهذه القسوة والبؤس كما يتصور أصحابها، فمشاكلهم بسيطة جدا بالمقارنة بحالات انتحار شهدتها مصر، وإذا كانوا يشعلون النار فى اجسادهم، وهى اشد حالات الانتحار خطورة على المنتحر، فكل ذلك بالتأكيد من أجل الابتزاز السياسى والبحث عن الشهرة أكثر من أن يكون انتحارا للتخلص من مشاكل الحياة، وقد اتخذها البعض لعبة للاستغلال والضغط على المجتمع والنيل منه وتحقيق الذات للمنتحر رغم وجود حالات اكثر منه بؤسا فى المجتمع ولديها قدره ايمانية على تحمل الصعاب جعلها لا تقدم على الانتحار، ولهذا لا يجب تلبية طلبات هؤلاء فورا حتى لا تصبح لغة التهديد بالانتحار لغة المطالب من الحكومة والمجتمع ولابد أن نسمع هؤلاء بهدوء دون أن نلبى كل طلباتهم ومن الخطا أن تنفذ الحكومة مطالب هؤلاء حتى لا تغذى سلوك الاحتجاج فى المجتمع وذلك لان الأصل فى الحصول على الحقوق هو بالطرق العادية والقانونية. ولابد أيضا ان توقف الدولة هذا المسلسل المسىء، عن طريق وسائل الإعلام والتعاليم الدينية وتهدئة المهووسين بالانتحار فى الشوارع. ويضيف د. المهدى أن الشعب المصرى يعيش أزمات حادة وظروفا مجتمعية تهدد بالانفجار ولابد من التعامل مع هذه الأزمات بحذر شديد دون الاستهانة بها ودون أن نردد بدون أى دراسة حقيقية للأمور، أن ماحدث فى تونس لن ولم يحدث فى مصر، لأن ظروفنا الاقتصادية والمعيشية صعبة، ودعوى عدم حدوث ثورة فى مصر تغطى على النار تحت الرماد، حيث ان دخل المصرى أقل بكثير من التونسى. كما أن صدمة الشعب فى الانتخابات الأخيرة تكاد تكون قد اغلقت الباب والامل امام التغيير والتداول السلمى للسلطة ووقفت حائلا امام المطالبين بالتغيير، وهناك جمود سياسى يسد احلام الشعب إضافة إلى انعدام الحساسية بالشكوى وعدم ظهور أى ثمره لحرية الإعلام التى نعيشها فى مصر، وكل ذلك قد يؤدى إلى تراكم الاحباط لدى المصريين وزيادة الاحتجاجات والاعتصامات وزيادة الغضب وهذه كارثة يجب ان نواجه اسبابها من المجتمع وأن نسمع شكاوى الناس ونحلها ونشعرهم بالاهتمام حتى نلغى المشاعر السلبية لديهم. وطالب الدكتور المهدى جميع القوى السياسية بالتكاتف من أجل الحفاظ على مصر وتعاون الأغنياء مع الفقراء حتى نقلل من الأعباء التى تواجه المواطنين. كما طالب الحكومة باتخاذ تدابير أخرى لإزلة مشاعر الإحباط لدى المواطنين وزيادة الثقة بينهم وبين الحكومة والنظام حتى تنعم مصر بأهلها ويظل المواطن المصرى شامخا أمام كل العقبات والتحديات التى تواجهه. كشف تقرير مركز المعلومات بمجلس الوزراء المصرى عن أن عدد محاولات الانتحار فى عام واحد بلغت 104 آلاف حالة من مختلف الأعمار، وتشكل الفئة العمرية منهم ما بين 15 و25 سنة نحو 67 % من المنتحرين، وأن 11 ألفا من المنتحرين من السيدات اللاتى استخدمن السموم والمبيدات الحشرية منهن 8500 سيدة وفتاة بالمحافظات، بينما اختصت الاحصائية القاهرة والجيزة بنحو 2500 سيدة. إن نحو 42 ألفا من مختلف المحافظات حاولوا الانتحار بوسائل مختلفة على رأسها المبيدات الحشرية وقتل الأسرة والنفس فى الوقت ذاته، إضافة إلى 54 ألف حالة انتحار بالقفز من أعلى المبانى أو فى الترع والنيل وغيرها، ووصل عدد الوفيات منهم نحو 6 آلاف و50 حالة فى عام واحد وأن 66.9 ألف شاب وفتاة منهم استخدموا المبيدات والأدوية والأقراص المخدرة. وأكد الدكتور محمد عبدالظاهر الطيب أستاذ الدراسات النفسية عميد تربية طنطا سابقا، أن أسباب الانتحار ترجع للفشل والإحباط سواء فى العمل أو التجارة أو الفقر الشديد ولكنه فى النهاية يصنف على أنه فشل فى تركيبة الشخص لسوء تربيته، وضعف إيمانه وتدريبه على مواجهة الحياة والأزمات، وانفصاله عن الدين مما يستوجب الاهتمام بالأجيال القادمة والنشء بتعليمهم الصبر والقوة والتحمل والارتباط بالدين وتعاليمه لأنها جريمة أمام الله، فإذا كان القانون لا يعاقب على الشروع فى الانتحار فإن الإنسان مكلف من الله بأن يعمر هذه الأرض ويرعى نفسه وغيره.