يرقب العالم الولاياتالمتحدة وهى تقر بالانتهاكات التى قامت بها فى أعقاب 11 سبتمبر، محاولا أن يستوعب التبعات الكاملة لأحداث الأسبوع الماضى غير العادية. فى الوقت الذى يهدد فيه التحقيق الجنائى واسع النطاق الذى تقوم به إسبانيا بشأن التعذيب فى جوانتانامو، بإحراج الولاياتالمتحدة، كشف الرئيس أوباما النقاب عن مذكرات قانونية صدرت فى عهد إدارة بوش آملا فى أن يؤدى ذلك إلى أن تتجاوز البلاد هذه القضية. لكن ما حدث هو المعكوس، حيث ظهرت مزيد من الوثائق التى توضح بالتفصيل الدقيق درجة القسوة التى مورست: من انتهك من، كيف فعلوا ذلك، وما الذى حدث. فقد كشفت الحقيقة فى تفصيل مذهل، بداية من عدد حالات استخدام الغمر بالماء الإيهام بالغرق إلى الأحكام القانونية التى مهدت لذلك. وفى 21 أبريل طرح الرئيس أوباما إمكانية تشكيل محاكمات لجرائم الحرب الأمريكية وتحقيقات بعيدة المدى، وهى تطورات لم تكن متخيلة قبل شهر من الآن. وربما كان ذلك أمرا حتميا. فعندما تولى أوباما مهام منصبه، كانت الدلائل على ممارسة التعذيب قوية. فقد أكدت سوزان كروفورد، المسئولة العسكرية المختصة بمتابعة أوضاع معتقلى جوانتانامو. أن الحرمان من النوم واستخدام الكلاب والأوضاع المؤلمة وحلق الرأس الإجبارى الذى تعرض له محمد القحطانى هى أساليب تقع ضمن نطاق التعذيب. ويتفق المحامى العام ورئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية أن الغمر بالماء يمثل نوعا من التعذيب. ولا يتعلق الأمر بكيفية تقييم هذه الأعمال، ولكن كيفية التصرف إزاءها. ويبدو أن تدخل الإسبان فى القضية رفع من حدة الجدل بشأن ما يجب عمله من كبار المحامين والمسئولين المتورطين فى ذلك، خاصة ألبرتو جونزاليس وديفيد أدينجتون وجيم هاينز وجون يو وجاى بيبى ودوج فيث، والذين أصبح يطلق عليهم «رجال بوش الستة». ويبدو الموقف متقلبا. فمنذ عشرة أيام، طمأن أوباما المحققين فى وكالة الاستخبارات المركزية بأن «أولئك الذين أدوا واجبهم بنية طيبة وبناء على نصيحة قانونية من وزارة العدل» لن يُقدموا للمحاكمة. وقد كان أوباما حذرا فى العبارات التى استخدمها، حيث لم يقل إنه لن تحدث أية محاكمات. وقد أثار رام إيمانويل كبير الموظفين فى البيت الأبيض عاصفة عندما أعلن ذلك، وهو ما دفع أوباما إلى تجاوز المشكلة بالقول بأنه «فيما يتعلق بأولئك الذين صاغوا تلك القرارات القانونية، سوف يتحدد الأمر وفقا لقرار المحامى العام.. وأنا لا أريد أن أطلق أحكاما مسبقة». ومن ثم فمن الحتمى القيام بمزيد من التحقيق. ويأتى هذا الجدل بعد مرور خمسة أعوام عقب الإعلان عن مذكرة من صفحة واحدة كتبها جيم هاينز، محامى دونالد رامسفيلد فى وزارة الدفاع الأمريكية، فى نوفمبر 2002. وقد قدمت المذكرة غطاء يفوض باستخدام أسلوب وضع المتهمين فى أوضاع ضاغطة والحرمان من النوم والكلاب والتجريد من الملابس، وهى تمثل انتهاكات للقانون الدولى. كما أن تلك المذكرة تركت الباب مفتوحا أمام استخدام أسلوب الغمر بالماء، وبناء عليها جرى تعذيب محمد القحطانى، وانتقلت هذه الأساليب إلى أفغانستان والعراق وخاصة أبوغريب. وكانت المذكرة صادمة، حيث بدا من الصعب أن يفهم المرء كيف يعطى كبار المحامين تفويضا بالتعذيب. ومن ثم فقد قضيت 18 شهرا ارتحل عبر الولاياتالمتحدة، ملتقيا العديد من المسئولين الذين تورطوا فى ذلك. وكانت الغالبية من هؤلاء أفرادا عاديين دمثى الخلق. وأعتقد أن البعض منهم دون البعض الآخر قد تحدثوا بصراحة وأمانة. وكلما ارتفع مستوى الدائرة السياسية التى أذهب إليها، كلما زادت حدة الغطرسة. وفى البداية، بدا أن مفهوم القيام بتحقيقات جنائية ضد كبار المحامين والمسئولين فى حد ذاته أمرا لا يصدقه عقل. غير أنه عندما أصبحت هذه الفكرة واقعا على الأرض. بدأت فى التطور، يغذيها فى ذلك غضب واسع وعارم، وهو ما أدى فى النهاية إلى انعقاد جلسات استماع أمام الكونجرس حول هذه القضية، والتى أدليت فيها بشهادتى ثلاث مرات. وفى الصيف الماضى، دعا 54 عضوا من أعضاء مجلس النواب إلى تعيين مدعٍ خاص فى هذه القضية. واستمرت جلسات الاستماع، وظهرت آلاف الصفحات من الوثائق الجديدة، واكتسبت القصة مزيدا من الزخم. وأصبح الدور المركزى الوضيع الذى قام به المحامون فى هذه العملية أكثر وضوحا بعدما انكشفت خطة الالتفاف على القانون. فإما أن القوانين لم تطبق، وإما أنها لم تعط حقوقا للمعتقلين. وجرى تجاهل التعريفات الراسخة بشأن التعذيب، ونحيت جانبا اعتراضات المحامين الذين يتمتعون بالمعرفة. وكانت ورقتا الأمن والمصلحة الوطنية هما الورقتان الرابحتان. وكانت أغلب المعلومات التى أُعطيت لى صادقة. لكن بعضها لم يكن كذلك، مثل تلك التى قدمتها ديان بيفير، التى تشغل منصب المحامى العسكرى فى جوانتانامو، والتى قالت إدارة بوش إنها اعتمدت على نصائحها القانونية الخاطئة. فقد أكدت لى بيفير المرة تلو الأخرى أنها لم تكن على علم بالمذكرات القانونية السرية التى كُتبت فى وزارة العدل. لكن خلال الصيف الماضى، ظهرت وثيقة من خمس صفحات تتحدث بالتفصيل عن اجتماع سرى عُقد قبل تسعة أيام من إصدارها لنصائحها القانونية. وأشارت الورقة إلى أن محام فى وكالة الاستخبارات المركزية أخبرها بنصيحة وزارة العدل التى تسمح باستخدام أساليب جديدة فى التحقيق. وقد نسفت هذه الوثيقة تأكيداتها السابقة بعدم اطلاعها على مذكرات وزارة العدل. وتبين الوثيقة أن المحامى المذكور قال لها «إذا مات المعتقل، يعنى ذلك أنك قمت بالأمر بطريقة خاطئة. كان تورط الآخرين وضعفهم أكثر وضوحا. وكان دوج فيث الثالث فى ترتيب القيادة داخل البنتاجون، حيث كان مسئولا عن وضع السياسات والأطر التنفيذية. وقد أبلغنى أنه لم يكن يعرف شيئا عن أية قضايا تحقيق محددة إلى أن وضعت مذكرة رامسفيلد على مكتبه. ولكن هذا ليس صحيحا. وقد كتب هاينز فى المذكرة: «لقد ناقشت مع.. دوج فيث». وفى الأسبوع الماضى كشف تقرير لمجلس الشيوخ أن مكتبه شارك فى مرحلة مبكرة فى دعم التكنيكات الجديدة. وانهارت الدعاوى الأخرى فحسب. وأمام اللجنة القضائية بمجلس النواب، ذكر عضو جمهورى بالكونجرس أن الغمر بالماء كان استخدم فقط مع ثلاثة رجال ولفترات مجموعها ثلاث دقائق. فعلام كل هذه الضجة؟ وبدا أن عضو الكونجرس يتساءل. ومن الواضح أن مصدره لم يكن دقيقا. وفى الأسبوع الماضى خرجت وثيقة جديدة تبين أن رجلين جرى غمرهما بالماء 266 مرة. لقد ألحق التعذيب ضررا بالغا بسمعة الولاياتالمتحدة، وهى البلد الذى فعل أكثر من أى بلد سواه لتشجيع فكرة حكم القانون الدولى. وهذا الضرر لا يمكن إصلاحه بعرض الوثائق. فلابد من المحاسبة. والتحقيق أمر حتمى، ولكن ما نوع هذا التحقيق؟ من الناحية النظرية، ليس التحقيق الجنائى والتحرى المستقل وبواسطة الكونجرس حصريين على نحو متبادل. أما فى الواقع، فمن الصعب أن يمضيا معا. فسوف توقف الإجراءات الجنائية تدفق المعلومات، حيث سيلتزم من يخشون التحقيق الصمت. ومع ذلك فقد ارتكبت جرائم خطيرة، وباعتبار الولاياتالمتحدة دولة قوانين، فلابد أن تحقق فى كل تلك المخالفات الجنائية. وهذا توازن يصعب تحقيقه. ذلك أن إحراز تقدم قد يكون ممكنا ببدء تحقيق كامل بواسطة لجنة مستقلة رفيعة المستوى تتمتع بسلطة الإجبار على تقديم الوثائق وشهادة الشهود. ومع ذلك فسوف يكون ذلك إرجاء مؤقتا للتحرى والتحقيق الجنائى الحتمى، سواء أكان فى الولاياتالمتحدة أو إسبانيا أو أى مكان آخر، وإجراء طويلة فات موعدها لشطب المحامين من جداول المحامين. إنه دليل على قدرات أمريكا البارزة على إعادة الاختراع ورئيسها الذى يحظى بالإعجاب ويجد نفسه فى وضع صعب يتوجب عليه فيه الاختيار بين بناء التعاون بين الحزبين أو تشجيع حكم القانون (وهذا أمر لا يحتاج إلى جهد ذهنى كبير) حتى إن مثل هذا الجدل الذى يتسم بالحيوية يمكن أن يجرى بسرعة بعد «الفصل المظلم والمؤلم». وفى النهاية نجح النظام. وأخيرا كان لابد للجمهور والدولة والإعلام أن يعملوا بتنسيق مع بعضهم، إلى حد ما. وأصدرت المحكمة العليا أحكاما حاسمة، إلى حد ما. ومن الصعب تخيل الكثير بلدان كثيرة أخرى تسمح لهذا القدر الكبير من المواد بأن يكون متاحا. وعلى الجانب الآخر، ينبغى أن يلحق هذا العار ببريطانيا والبلدان الأخرى التى تعاونت مع تجاوزات إدارة بوش وجرائمها فى فتح ملفاتها، بما فى ذلك الآراء القانونية. وفى الوقت نفسه، وعلى مدى المستقبل المنظور، ستكون عيون العالم على الولاياتالمتحدة. وسوف يظل المسئولون الستة السابقون فى إدارة بوش فى حفرة سوداء عميقة من صنعهم. Copyright: Guardian News & Media 2009