لقاء الرئيس عمر البشير يفتح الشهية لطرح كم من الأسئلة بعدد المشكلات والتحديات التى يواجهها السودان، وبحجم اللغط المثار حول سياساته فى الداخل والخارج. 1 فالسودان ليس بلدا كبيرا فحسب ولكنه مشكلة كبيرة أيضا، ذلك أننا نتحدث عن بلد هو الأكبر من حيث المساحة من أى دولة عربية وأفريقية أخرى (مساحته أكثر من مليونين ونصف مليون كيلو متر مربع فى حين أن مساحة مصر مثلا لاتزيد كثيرا على مليون كيلومتر مربع)، وسكانه البالغ عددهم 40 مليون نسمة هم نصف سكان مصر. أما مشكلته فهى متعددة الأوجه، فمن ناحية، له حدود مشتركة مع تسع دول عربية وأفريقية، الأمر الذى يجعل سيطرته على حدوده من المستحيلات، ومن ناحية ثانية، فإن أهله يتوزعون على 600 قبيلة، يتكلمون 115 لغة ولهجة محلية، تتفرع منها لهجات أخرى، وهذه القبائل يتحكم فيها زعماء محليون من شيوخ وسلاطين وأمراء، ولكل منهم عالمه الخاص، الذى لا علاقة له بالضرورة بالسلطة المركزية فى الدولة. وطوال السنوات الماضية كنا نسمع عن الشمال والجنوب فى السودان، لكننا لم نلاحظ أن هناك كيانات أخرى فى كردفان ودارفور وبلاد النوبة. ثم إنه بلد غنى، بمياهه ونفطه وغازه وغاباته ومعادنه التى تتراوح بين اليورانيوم والذهب والنحاس والفوسفور والمنجنيز والكروم.. إلخ. وإلى جانب ذلك فثروته الزراعية والحيوانية لاحدود لها، فالحديث عن 200 مليون فدان صالحة للزراعة و50 مليون رأس من الغنم والماعز إضافة إلى 23 مليونا من الأبقار و35 مليونا من الإبل. وإلى جانب أهميته الاستراتيجية فى المحيط الأفريقى، فإن إطلاله على البحر الأحمر بساحل طوله 644 كيلو مترا، ضاعف من تلك الأهمية. وتلك كلها عوامل جعلت السودان مطمعا للدول الكبرى وساحة لصراعاتها، ونقطة جذب للمتآمرين والمغامرين والمبشرين. بسبب كل ذلك لم تتوقف المشكلات فى السودان منذ استقلاله فى عام 1956، ولأن الأقدار وضعته فى موقع باب العالم العربى إلى أفريقيا، فإن ذلك كان سببا آخر لمحاولة تفكيكه وإدامة إشعال نار الفتنة فيه، حتى لا يستقوى بموارده، على نحو يمكنه من أن يصبح صاحب دور فى القارة، وهو ما يستكثره عليه الطامعون والمتربصون والمتآمرون. 2 كانت هذه الخلفية حاضرة فى ذهنى حين ذهبت للقاء الرئيس عمر البشير فى بيته، ولم يغب عن بالى أن الرجل الذى يمسك بزمام السلطة منذ عشرين عاما، مطلوبا أيضا للمحكمة الجنائية الدولية بسبب مشكلة هى جزء من مسلسل التآمر على السودان، وحين حسدته على ثباته وقوة أعصابه، استشهد فى تعليقه بالآية الكريمة «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» وبالحديث النبوى الذى يقول ما معناه أن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن ينفعوا أو يضروا مخلوقا بشىء، فلن يلحقوا به إلا ما كتب الله له أو عليه. لم أستغرب الرد، فقد كنت أعلم أنه حافظ للقرآن وله خلفيته الدينية التى حصلها منذ صغره حين كان حفظ القرآن أول ما يتعلمه أبناء جيله (من مواليد عام 1944). ولما صار رئيسا، فإنه ظل يواظب على أداء الفرائض الخمس من الفجر إلى العشاء فى مسجد صغير مقام إلى جوار بيته الرئاسى، والذين يعرفونه يقولون إنه لايزال متأثرا ببيئته الصوفية، رغم أنه تخرج فى الكلية الحربية فى عام النكسة (1967) وقدر له أن يشترك بعد ذلك فى حرب العبور عام 1973، وفى رحلته أعطى الدراسات العسكرية جزءا كبيرا من وقته، خصوصا أنه كان متخففا من الأعباء العائلية، حيث لم ينجب من زوجتيه (الثانية كانت زوجة شهيد من رفاقه) وعوض الإنجاب عن طريق تبنى طفلين من أبناء الجنوب. فى الوقت ذاته، فإنه انكب على دراسة الماجستير فى العلوم العسكرية بكلية القادة والأركان فى الخرطوم، وبعدها حصل على ماجستير العلوم العسكرية من ماليزيا، ثم حصل على زمالة أكاديمية السودان للعلوم الإدارية. حين التقيته كان وفد سودانى قد غادر الخرطوم إلى «لاهاى» لحضور جلسة إحدى المحاكم الدولية التى تنظر نزاعا مع الجنوبيين حول حدود منطقة «أبييه» الغنية بالنفط خاصة. وكان اثنان من المبعوثين الأمريكيين قد أنهيا زيارتهما للسودان. سألته عن المهمتين فقال إن القضية المرفوعة فى لاهاى أريد بها رفع الظلم عن الإقليم الشمالى الذى أقتطعت مساحة واسعة من أرضه بغير حق وأدخلت ضمن حدود «أبييه»، كان سوء النية واضحا فى هذه العملية. ولم يكن أمامنا سوى أن نلجأ إلى التحكيم الدولى لحل ذلك الإشكال. أما فيما يخص المبعوثين الأمريكيين فإن مهمتهما اقتصرت على أمرين، العلاقات الثنائية بين واشنطنوالخرطوم، المجمدة والمسكونة بالتوتر، وموضوع المنظمات الإغاثية التى قررنا طردها من السودان بسبب أنشطتها المريبة والمعادية فى دارفور (عددها 13 منظمة). لم يتطرقا إلى القرار الذى أصدرته المحكمة الجنائية الدولية؟ لم يتحدثا فى هذا الموضوع، لكننا فهمنا أن التعامل «الإيجابى» مع النقطتين اللتين جاءا لبحثهما من شأنه أن يوفر أجواء أفضل لتهدئة الضجة التى أثارها. سألته عن نتائج الزيارتين فقال إن النتائج لم تظهر بعد، ولكن المقدمات تعطى انطباعا مريحا نسبيا، ففيما يخص المنظمات فإننا تمسكنا بقرارنا بإبعادها، لأن لدينا أدلة قوية تثبت تآمرها ضدنا وانتسابها إلى قوى الضغط الصهيونية. ولكننا كحل وسط لم نمانع فى استقبال بدائل عن المنظمات الأمريكية التى طردت (عددها أربع والباقى منظمات أوروبية). أما فيما يخص العلاقات الثنائية، فإن إعادتها إلى مسارها الطبيعى يتطلب وقتا لم تتضح معالمه بعد. استطرد الرئيس البشير قائلا إن السودان لديه خبرة طويلة مع المبعوثين الأمريكيين، أكثرها غير مشجع. لأن المشكلة لا تكون فى المبعوث القادم من واشنطن، ولكنها فى القوى الضاغطة على القرار السياسى هناك. وفى السابق استقبلنا زوارا أمريكيين، قالوا لنا كلاما طيبا هنا وحين عادوا إلى بلادهم اضطروا إلى تغييره للحفاظ على مستقبلهم السياسى. وقد قلت لأحدهم مرة (اسمه السناتور دانتورس) إن من المبعوثين من يأتى إلى السودان فى حين يكون تقرير الزيارة مكتوبا سلفا، وجاءنا مبعوث آخر كان معاديا لنا، لكنه حين حاورنا اقتنع بكلامنا. وحين تحسن موقفه أعفى من منصبه. سألته: هل هذا الشك ينسحب على المبعوثين الأخيرين؟ قال: ينبغى أن ننتظر حتى نقيم النتائج. لكن ما نستطيع أن نقوله إنهما تحدثا بروح إيجابية، وجدناها تعبيرا عن الخطاب المتصالح والمنفتح الذى تقدمه الإدارة الجديدة فى البيت الأبيض. 3 س: هل هناك علاقة بين تأجيل الانتخابات العامة إلى شهر فبراير المقبل، وبين التخوف من انفصال الجنوب فى استفتاء عام 2011؟ ج: لا علاقة بين الأمرين. فالتأجيل سببه أن ترتيبات إجراء الانتخابات الخاصة بالدوائر لم تتم، إضافة إلى أن نتائج التعداد السكانى لم ترض عنها حكومة الجنوب، التى تصر على أن تكون نسبة الجنوبيين 33٪، فى حين أن المسح الذى أشرفت عليه الولايات الجنوبية بين أن نسبتهم 21٪ فقط. ثم إننا لسنا قلقين من نتائج الاستفتاء الذى ارتضينا أن نحتكم إليه فى الاتفاق الموقع معهم. وحتى الآن فهناك 40٪ من الجنوبيين يريدون البقاء فى إطار الدولة الواحدة. وهذه النسبة تتزايد، خصوصا فى ظل الصراعات الحاصلة بين القبائل الجنوبية التى يرفض بعضها الخضوع لسلطان الحركة الشعبية. وهذه الصراعات لم تتوقف طيلة السنوات الأخيرة، وأحدثها ما وقع فى جونجلى قبل أيام وأدى إلى مقتل 300 شخص على الأقل. س: من أين تأتى الجماعات المتمردة فى دارفور بالسلاح؟ ج : هم يحصلون على سلاحهم من تشاد بحكم الصلات القبلية. وتشاد تحصل على السلاح من ليبيا. وقد تحدثنا مع الليبيين بهذا الخصوص، فكان ردهم أنهم يقدمون السلاح إلى الحكومة التشادية وليس إلى المتمردين. س: لماذا لم تعلنوا عن الغارات التى شنت ضد قوافل تهريب السلاح حين وقعت فى شهر فبراير الماضى؟ ج: السبب أن أجهزتنا كانت تريد أن تتحقق من مصدر الغارتين ولم تتوصل إلى شىء، إلى أن أعلنت إسرائيل عن دورها فى ذلك. س: هل كانت الحكومة السودانية على علم بعمليات التهريب؟ ج: السودان مفتوح على تسع دول ويتعذر ضبط حدوده تماما. وإذا كانت الولاياتالمتحدة عاجزة عن ضبط حدودها مع المكسيك، فنحن نعذر إذا لم ننجح فى إحكام الرقابة على الحدود، ونحن نعلم أن قبيلة الرشايدة المنتشرة فى إريتريا والسودان ومصر تقوم بتهريب كل شىء عبر الحدود من الطعام إلى البشر والجمال مرورا بالسلاح. وقد علمنا من إخواننا فى مصر أن ثمة سلاحا يتم تهريبه عبر الصحراء لكننا لم نستطع أن نوقفه. س: إلى أى مدى تأثر السودان بالأزمة الاقتصادية العالمية؟ ج: تأثرنا ليس كبيرا ومقصورا على عوائد النفط الذى انخفضت أسعاره ويشكل 40٪ من موارد الميزانية. ولكن ذلك لم يعطل شيئا فى مشروعاتنا للتنمية. فقد ساعدتنا ظروف كثيرة على إنجاز الكثير من مشروعات البنية الأساسية، خاصة سد مروى وشبكة الطرق والجسور التى ربطت بين ضفتى النيل، وأصبح لدينا وفرة فى الطاقة مكنتنا من توصيل الكهرباء إلى أنحاء السودان وكانت النتيجة أن السودان أصبح ترتيبه السادس بين الدول العشر الأسرع نموا فى العالم. س: ما مدى ما يقال من أن السودان أصبح منطقة جذب للاستثمارات الخارجية، بعد أن كان طاردا لها؟ ج: هذا الكلام صحيح ولابد أن نعترف بالفضل فى ذلك لجهتين: الصناديق العربية التى مولت العديد من المشروعات الكبيرة فى السودان، والصين والدول الآسيوية الأخرى التى قدمت لنا خبرات ومعونات ساعدتنا على النهوض بالواقع السودانى. ذلك أننا بعد ما حاربتنا الدول الغربية، فإننا فتحنا أبوابنا للصينيين ودعونا الماليزيين وجاءنا الهنود والباكستانيون والكوريون، حتى أصبحنا الدولة العربية الوحيدة التى انفتحت على الشرق. س: ما مدى صحة ما قاله وزير الزراعة فى الحكومة الزبير بشير من أن الأمريكيين طلبوا من السودان عدم التوسع فى زراعة القمح ليظلوا وحدهم الممسكين بهذا الملف؟ ج: ليست لدينا أوراق رسمية تثبت ذلك، لكننى لا أستبعده. لأنهم فعلوا نفس الشىء أثناء حكم الرئيس إبراهيم عبود (1958 1964)، حيث أعطونا القمح والدقيق مجانا، وطلبوا منا ألا نزرع القمح فى الولاية الشمالية. 4 سألته عن رأيه فيما يقال عن فتور العلاقات مع مصر بسبب حضوره قمة الدوحة التى سعت مصر لمنع عقدها ولأن القاهرة دعت إلى عقد مؤتمر دولى لأجل دارفور دون علم الخرطوم أو استشارتها. فقال إن العلاقات مع مصر ليست فاترة وليست حميمة، لكنها إيجابية مع ذلك، والتفاهم والفهم المتبادل قائم بين البلدين، وذلك هو الأهم. وبالمناسبة فإن السودان كان أول من دعا إلى عقد القمة بعد بدء العدوان على غزة، وقد اتصلت هاتفيا بالرئيس بشار الأسد لهذا الهدف، ولذلك فإن قطر حين عرضت استضافة القمة، فإننا كنا فى مقدمة الملبين. تطرق الحديث إلى مبادرة السلام العربية فقال الرئيس البشير إنه من أنصار سحبها، لأنها لم ولن تؤدى إلى شىء، وأنه أبلغ الرؤساء العرب بذلك فى أحد الاجتماعات المغلقة، ولولا حرص الخرطوم على عدم شق الصف العربى لكان لها موقف آخر. قلت هل تعتبر السودان من دول الممانعة أم دول الاعتدال. فكان رده لا تنس أن السودان هى دولة «اللاءات» التى أعلنت فى قمة الخرطوم بعد هزيمة 67 (لاتفاوض ولا صلح ولا اعتراف). وهى مازالت على ذلك العهد إلى الآن. ولذلك فهى تقف مع المقاومة على طول الخط. قلت ما رأيك فى الأزمة الحاصلة الآن بين مصر وحزب الله؟ قال: نحن نثق فى حزب الله وقيادته ونعتبره مقاومة شريفة جديرة بالحفاوة والتقدير. تعرف أنه لم يمارس أى أنشطة ضد أى دولة عربية أو غير عربية. ونأمل فى احتواء الأزمة بأسرع ما يمكن، حتى لا ينصرف الاهتمام عن إسرائيل التى تمثل العدو الأساسى والأول للدول العربية. سألته وأنا أهم بالمغادرة. هل فى السودان معتقلون سياسيون؟ فقال: إن الدكتور حسن الترابى كان آخر المعتقلين وقد أطلق سراحه. قلت ما رأيك فى موقفه المؤيد لقرار المحكمة الدولية، قال: إن الترابى عزل نفسه عن الإجماع الوطنى، منذ استسلم لأحقاده الشخصية وتراجعت لديه أولوية المصالح العليا للوطن.