مع الحديث عن زيارة مبارك للولايات المتحدة بعد انقطاع لسنوات، يعود موضوع العلاقات المصرية الأمريكية ليتصدر الأجندة. وفى الواقع لم يختف هذا الموضوع أبدا، سواء كانت هذه العلاقات مثار استحسان أو اختلاف، أثناء الحرب على غزة أو غزو العراق واحتلالها، متعلق بالإصلاح السياسى أو حقوق الإنسان، بأيمن نور أو سعد الدين إبراهيم، وضع الجماعات الإسلامية واتصالات واشنطن بهم... تعدد وتنوع هذه الموضوعات هو أوضح مؤشر على مركزية العلاقات المصرية الأمريكية كما يتضح من البرج العالى لوكالة التنمية الأمريكية القابع فى جاردن سيتى، والذى بأسواره وإجراءات الأمن فيه وحوله يشبه إمبراطورية ضخمة فى وسط القاهرة. ومع ذلك هناك بعض الحقائق التى يكتنفها الضبابية والتى يجب على العكس إبرازها: سأقتصر على ثلاث حقائق: على العكس من التصور العام، كانت هذه العلاقات على المستوى الحكومى خلال الستين سنة الأخيرة علاقات طبيعية وحتى ودية، كانت فترة القطيعة أو الجفاء قليلة. هناك خلافات بالطبع، كأى علاقات بين الدول أو الأفراد، كما يحدث بين أوروبا وأمريكا، ولكن باستثناء فترة الستينات مع الرئيس الديمقراطى جونسون الذى أتى عقب اغتيال كيندى، تميزت هذه العلاقات بالكثير من التواصل. فمع بداية النظام الناصرى كانت السفارة الأمريكية أول من عرف بالانقلاب العسكرى فى 1952 عندما تم تفويض على صبرى رئيس وزراء مصر فيما بعد بالاتصال بالسفارة وطمأنتهم وطلب التوسط لدى قوات الاحتلال البريطانى حتى لا تتدخل فى هذا الشأن الداخلى المصرى، واستمر الدور الأمريكى أثناء محادثات الجلاء المصرية البريطانية، بل إن السفير الأمريكى فى مصر جيفرسون كافرى كان من أكبر الناصحين لقادة الانقلاب بطرد الملك بدلا من إعدامه. وحتى مع التوتر الشديد حول حلف بغداد وحظر إرسال السلاح إلى مصر، فإن واشنطن صوتت فى الأممالمتحدة فى أثناء العدوان الثلاثى إلى جانب مصر وضد حلفائها: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. ثم كان تواصل الرسائل بين عبدالناصر وكيندى فى بداية الستينيات، وحتى قبول عبدالناصر قبل وفاته بشهور قليلة فى 1970 لمبادرة وزير الخارجية الأمريكى روجرز لوقف إطلاق النار فى أثناء حرب الاستنزاف مع إسرائيل. هذا القبول الذى أدى إلى توتر فى العلاقات المصرية الفلسطينية. أما فترة السادات، فكانت فعلا شهر عسل حيث تم طرد السوفييت واستقبال الأمريكان بترحاب، وعلى الرغم من أن فترة مبارك شهدت توازنا أكبر فإن مركزية العلاقات المصرية الأمريكية لم تتغير. النتيجة أن هذه العلاقات متشعبة ومتغلغلة: عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية وحتى تعاون استخباراتى. فى الثلاثين سنة الأخيرة فقط حصلت مصر على أكثر من 60 بليون دولار من واشنطن، معظمها مساعدات عسكرية. نتذكر المناورات المشتركة Bright star، كما أن مصر تقوم بتجميع الدبابات الأمريكية MI، وتبادل البعثات العسكرية يلتزم بجداول وأهداف محددة. أما المساعدات الاقتصادية فتبين هذا التشعب وتنقسم إلى خمس فئات على الأقل: النمو الاقتصادى، البنية التحتية والخدمات، الديمقراطية والحكم الرشيد، التعليم الأساسى، والصحة والسكان. وكل من هذه الفئات الرئيسية يحتوى على فئات فرعية ذات برامج محددة وخطة عمل. فمثلا فى مجال التعليم هناك اتفاق تعاون علمى وتكنولوجى تضمن فى الفترة 1995-2005 حوالى 300 مشروع و30 ورشة عمل. ولا تزال أمريكا الشريك التجارى الأول لمصر، حيث بلغ حجم التبادل التجارى فى 2007-2008 حوالى 8 بلايين دولار أو 5% من ناتج مصر المحلى الإجمالى. مصر فى عجز تجارى مستمر وكبير مع واشنطن، حيث تقترب وارداتها فى المتوسط من ثلاث أضعاف صادراتها. تظهر الاعتمادية المصرية فى مجال الاستثمار أيضا، حيث يبلغ الاستثمار الأمريكى فى 2007 2008 «8.8» بليون دولار أو أكثر من ثلث الاستثمارات الكلية فى مصر، بالدقة 36% ويرتبط بحوالى 682 شركة أمريكية، أهمها مؤسسة أباتشى هوستن. المباحثات حول اتفاقية تجارة حرة وتقوية الكويز «QIZ» تبين أن هذه العلاقات الاقتصادية هنا لتستمر. الكلام عن اتفاقية الكويز يوضح حقيقة مهمة، على الرغم من الجهل بها أو تجاهلها، ألا وهى أن العلاقات المصرية الأمريكية ليست فقط علاقات ثنائية بل ثلاثية، بمعنى أن إسرائيل دائما فى النص: فى العلاقات الصراعية كما فى العلاقات التعاونية. فمثلا لكى تتمتع المنتجات المصرية بالمزايا الجمركية فى الولاياتالمتحدة طبقا لاتفاقية الكويز يجب ألا يقل المكون الإسرائيلى عن 11%. كما أننا نعرف دور الكونجرس وتوجهاته الموالية لإسرائيل فى السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط خصيصا. وفى الواقع فإن أهم تجسيد لهذه العلاقة الثلاثية هو اتفاقية كامب ديفيد 1978، هذه المحادثات المتواصلة لمدة 13 يوما وراء أبواب مغلقة وأسوار عالية لم تؤد فقط إلى نقلة نوعية فى العلاقات المصرية الأمريكية ولكنها أسست لنظام إقليمى جديد يقوم على دمج إسرائيل فى المنطقة بواسطة معاهدات سلام ثنائية مع الدول العربية، وتأسيس علاقات كاملة: دبلوماسية واقتصادية وثقافية وتبادل سياحى. فهناك اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية فى 1993، ثم معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية 1994، والآن المفاوضات السورية الإسرائيلية. وشهدت الفترة 1996-1994 أربع مؤتمرات اقتصادية دولية فى الدارالبيضاء، عمان، القاهرة والدوحة لتطبيق ما أسماه الرئيس الإسرائيلى الحالى شيمون بيريز «الشرق الأوسط الجديد»، والذى يقوم على التطبيع الكامل فى العلاقات العربية الإسرائيلية. وفى الواقع فإن الكونجرس يُقيم أساسا السياسة المصرية وحجم المساعدات الأمريكية طبقا لإسهام القاهرة فى عملية السلام. إذا كانت العلاقات المصرية الأمريكية بهذه المركزية والكثافة، أين المشكلة إذن؟ المشكلة إنها برغم الجهود الأمريكية للتغلغل فى المجتمع المصرى لاتزال هذه العلاقات حكومية أساسا، بل وأكثر من ذلك هناك على مستوى المجتمعات تصورات مختلفة وحتى سلبية من كل جانب عن الآخر. فتصفح الإعلام المصرى ُيبين التوجه النقدى وحتى العدائى لأمريكا خصوصا فى فترة بوش والمحافظين الجدد. فى استطلاع للرأى فى العام الماضى فى ثلاثين دولة فى العالم، عبر 59% من المصريين عن توجه سلبى ناحية الولاياتالمتحدة وسياستها. هناك بعض التغير مع وصول أوباما، ولكنها فترة انتظار وترقب أكثر منها انتهاء لعدم الثقة فى التوجه الأمريكى. من ناحية جموع الشعب الأمريكى، هناك أيضا جهل بمصر أو توجهات سلبية، مثلا عن أسلوب الحكم، أو مكانة المرأة. ولكن هذه التصورات الشعبية من الجانبين يحتاج لمقال مستقل.