أكثر من أربعين لوحة يقدمها الفنان عمر الفيومى بقاعة كريم فرنسيس عن المرأة فى جميع أحوالها، تتلصص عيون الفنان طفلا ثم رجلا ناضجا على «كلام الحريم» متحصنا بولعه بوجوه الفيوم. ما الذى يدور فى عالم النساء؟ كثيرا ما شغل هذا السؤال الفنان الرجل سواء كان مصورا لا يتوانى عن رسم الموديل النسائى، أو كاتبا يقتبس صوت المرأة ليروى تفاصيل عالم ملغز يستهويه ويحاول أن يستكشفه عبر الكتابة. إنه «التلصص» الفنى على عالم الآخر المنغلق على نواميسه الخاصة، يثير فضول الفنان سر هذه الدوائر التى تجمع المرأة بمثيلاتها وتلك الجلسات التى تحكمها العلاقات الحميمة التى تتصافى وتتداخل أحيانا وتبطن توترات وصراعات جوانية أحيانا أخرى. صورها الاستشراقيون كما صورها العديد من الفنانين العالميين خاصة فى عصر الانطباعيين حين صور «بول جوجان» عالم السيدات فى جزر المارتينيك، وأبدع «سيزان» و«رينوار» لوحات المستحمات، لكن يظل السؤال هو: كيف رأتها عيون الرجل؟ تلك العيون المتلصصة الشغوفة المحبة المندهشة والمتطلعة إلى المعرفة؟ فى معرض عمر الفيومى المقام حاليا فى قاعة كريم فرنسيس بعنوان «كلام حريم» يستحضر الفنان التشكيلى نظرة الفتى الصغير الذى كان يشارك أمه فى اجتماعها بالصديقات والجيران، يراقب عن كثب عالم «الكبار» النسائى فى أجواء الأحياء الشعبية الحميمية. هنا ثلاث سيدات تسّر إحداهن للأخرى قراءة الطالع فى فنجان القهوة بينما ترقب الثالثة عن بعد مجريات الأمور، ويتطلع الصبى إلى هذه الثنائيات التى تكشف عن عمق العلاقات، تنكسر العيون فى أسى فى إحدى اللوحات وتطرق الرءوس فى إنصات، هل تشكو لها من عالم الرجال؟ أم تعبر عن ضيقها من رتابة المعاش؟ لا يعرف الفتى فقد كان بعد صغيرا يراقب فى براءة ودهشة عالم الأسرار، لكنه يحتفظ بخطوط عامة لزمن جميل وألوان ثياب مبهجة. إنها وجهة نظر الصغير الذى لم يتفتح وعيه بعد تذكرنا بالصبى فى الفيلم التونسى «حلفاوين عصفور السطح» لفريد بوغدير الذى كان يصحب أمه إلى الحمّام التركى، يغوص فى عالم السيدات المستقل بذاته، تألفه عيون مرتادات الحمّام بينما تتأرجح نظرته هو بين براءة الطفل والاكتشاف الذى يميز بدايات النضج. يزين عمر الفيومى العالم الشعبى كما تسمح له ذاكرته التى تمتزج فيها القصص والأساطير بالواقع اليومى، فتجد المنمنمات والزخارف الشرقية تملأ خلفيات اللوحات وأردية السيدات المزركشة، يصور الفيومى السيدات فى واقعهن اليومى الرتيب يقطعن الزمن بجلسات الأنس وأوراق اللعب وفناجين القهوة متطلعات للمجهول، حالمات بغد أفضل. فالمتابع لأعمال الفنان منذ أواخر الثمانينيات يعرف أن الفيومى الذى تأثر فى بداياته بالفن المصرى القديم ووقع فى هوى «الأيقونات» أو المعلقات التى تصور القديسين والكهنة فى الكنائس البيزنطية حين سافر للدراسة فى موسكو، ثم عشق «وجوه الفيوم» أو البورتريهات التى عثر عليها فى الفيوم وترجع للعصر الرومانى ما بين القرنين الأول والرابع الميلادى، يحمل كل هذه التأثيرات فى روحه ليصنع منها عالما فنيا متفردا شديد المعاصرة. ويعرف أيضا أنه ينتقل من مشروع يشغله إلى آخر بعد أن يستنفد كل جوانبه، مثل عالم وجوه الفيوم الذى كرس له عدة معارض يختلط فيها الشكل الهللينيستى مع الروح الحداثية أو عالم المقهى الممتد من الشارع الواسع إلى داخل البيوت أو عالم الفانتازيا والمعتقدات التى تسكن حياة المصرى اليومية وأخيرا عالم النساء بما يحمله من رهان البوح والكتمان والإفصاح والتورية. وتتأكد فكرة المراحل التى تشغل الفنان إذا ما رجعنا إلى معرضه الذى قدمه فى 2005 بقاعة كريم فرنسيس حيث ظهرت بدايات عالم النساء الغامض من خلال شخصيات تحمل فى الوقت ذاته السطوة والانكسار وتومض فى عيونها تعلقا غريبا بالروحانى وغير المرئى. تعلقا بالآتى غير المعلوم. لكنه فى مجمل أعماله يظل مستمسكا بشكل وروح الأيقونة بعد أن يبث فيها الحس المعاصر، أو ربما على العكس يرى هو فى الوجه الأيقونى كما يردد دائما ملامح البشر التى نراهم فى حياتنا اليومية. لا يضع الفيومى فاصلا بين العالمين. قد أصبحت بورتريهات الفيوم بأشكالها وملامحها وفلسفتها أسلوبا يميز الفنان يخوض به أكثر الموضوعات حداثة وأكثرها تنوعا. فعلى مستوى الشكل، حار المؤرخون فى جماليات وجوه الفيوم التى أبدعها رسامون مغمورون صوروا البورتريهات المقدّر لها أن توضع فوق المومياء أى أن تدفن مع صاحبها وجعلوا منها وجوها تنبض حيوية وحياة. وعلى مستوى المضمون بدا الفيومى وكأنما قد وضع يده على مصدر للطاقة والقدرة على البقاء، فوجوه الفيوم التى صنعت لتكون مثل بطاقة هوية للمتوفى كانت فى الوقت ذاته استعدادا للموت ولملاقاة الحياة الأخرى، ورغم ذلك لم تمنع الشخصية المصوّرة «الموديل» من أن تستكمل مسيرتها بتفاؤل وانفتاح كما لم تمنع الرسّام من مواصلة دأبه وعمله الفنى رغم علمه أنها وجوه ستدفن ولن يراها أحد بعده. أدرك الفيومى أنه كسب الرهان حين استدعى وجوه الفيوم لتكون خليلته فى مسيرته الفنية.