رغم أنها روايته الأولى يبدو محمد ربيع صوتا روائيّا مصقولا يدرك أدوات صنعته، ويتقن مفاهيم البناء الروائى. فى روايته «كوكب عنبر» ثالث إصدارات «الكتب خان» للنشر والتوزيع يخوض ربيع مغامرة روائية مهمة على أكثر من مستوى، أولا أنها نتاج ورشة أدبية أشرف عليها وتابعها الروائى والشاعر ياسر عبداللطيف، وثانيها طبيعة البناء الروائى من حيث اختيار اللحظة الروائية والتطور الدرامى للأحداث والشخصيات، وثالثها طبيعة اللغة التى يكتبها ويستهدف تطويرها فى آن. تبدأ الرواية ب«شاهر»، موظف بهيئة الأوقاف يذكرك بموظفى كافكا. يكلفه رئيسه فى العمل بمهمة سيتفرغ لها شهرا كاملا. وقد اختاره خصيصا لهذه المهمة لأن شاهر فى رأيه «قارئ قديم». تتلخص المهمة فى مكتبة قديمة بميدان العباسية تسمى «كوكب عنبر»، أوقعها الحظ التعيس فى طريق إنشاء خط المترو الجديد، بما يعنى أن المكتبة ستهدم بالتأكيد. ويكون على شاهر أن يتفرغ ليكتب تقريرا عنها، هو فى أفضل الأحوال مبرر بيروقراطى لقرار الهدم الذى اتخذ فعلا. يعلم شاهر أن مهمته تلك عديمة الجدوى وأن المكتبة ستهدم، لكن حب استطلاعه ورغبته فى الاكتشاف سنلمح هنا ساراماجو سيدفعانه إلى ورطة وجودية. فى المكتبة يلتقى شاهر بعدد من الشخصيات ستشكل محور العمل الروائى، مدير المكتبة، وهو منافس قديم لمدير شاهر، وفى الوقت نفسه صاحب جاليرى يتلقى عليه تمويلا من جهات أجنبية. الدكتور على المترجم القديم الذى يقضى أغلب أوقاته فى المكتبة ويمعن فى تصوراته المخابراتية عمن يقصدونها بسوء كمصور الكتب، الدكتور سيد الذى درس علم التعمية (فك الشفرات بمعنى ما) والذى يتردد على المكتبة يوميا. هؤلاء وغيرهم يتعرف إليهم شاهر ويكوّنون عالمه فى المكتبة التى بدت بتنظيمها غير المعتاد سواء من حيث غرفها وطبيعتها المعمارية أو ترتيب العناوين فيها مسرحا أسطوريا قادما من عالم سرى يحتاج إلى فك شفرته، ويضفى إثارة على تطور الأحداث فى الرواية. يبدأ شاهر فى كتابة تقريره عن المكتبة فيتورط فى الدفاع عنها كمعنى ثقافى، رغم علمه المسبق بقرار الهدم. فينصرف إلى استكشاف الكتب ليستخرج من كنوزها شيئا يحتفظ به لنفسه (يسرقه بمعنى آخر). ولا بأس، إذا كان من الواضح أن كل زوار المكتبة يفعلون الشىء نفسه.. يبحث شاهر حتى يصل إلى كتاب غريب مكتوب بلغة غريبة سيكون هو مفتاح اللغز الذى يدور طول الوقت حول المكتبة سواء باسمها، أو تاريخ تأسيسها وقصتها الأسطورية، أو تلك البركة التى عرفت عنها بين كتّاب من كل أنحاء العالم يأتون إليها ليضعوا كتبهم من أجل أن يعثر عليها مترجم (!!) ينقلها إلى ثقافة أخرى. كدت أقول: سنلمح هنا دان براون. هذه النقطة الأخيرة بالتحديد ستدخل فى صراع مع الحبكة الأساسية للرواية من ناحية وتتيح مجالا للإثارة الروائية من ناحية أخرى، فأى بركة تلك؟ وأى نوع من الترجمات تلك التى لا تشبه أى ترجمة قرأها شاهر «القارئ القديم» من قبل؟ إنها ترجمات كاملة ليس عليها توقيع أى مترجم، ولأكثر من لغة، بل للغات غير معروفة أصلا! سيتطور السرد إذن فى اتجاهين، أولا: السؤال حول هدم المكتبة، فتحار بين تصديق شاهر وعدم تصديقه فى أن قرار الهدم اتخذ بالفعل، فتظل متلهفا لمعرفة القرار النهائى، وعلى الأقل ذلك الخاص بمصير الكتب. وثانيا: معرفة سر هذه المكتبة والكشف عن طبيعة الكتب االمترجمة تلك. والحقيقة أن محمد ربيع يدهشنا عندما تحين لحظة النهاية بمآل كلا الخطين الروائيين اللذين أفضل ألا أحرقهما. هذا هو نصف الرواية، نسيت أن أقول إننا نتعرف على كل تلك الأحداث على لسان شاهر الذى يكتب يومياته فى المكتبة بما فيها من ذكريات تفتح أمام عينيه، وكتب يستعرض ما فيها من معارف وحكايات، وكل ذلك بضمير المتكلم «أنا». أكرر، هذا نصف الرواية، أو وجه عملتها الأول. وجه العملة الثانى أن الدكتور «سيد» الذى درس علم التعمية ويختلف إلى المكتبة كل يوم ويحفظ أسرارها، بل ويكشفها لشاهر فى نهاية الأمر، يحكى لنا يومياته هو الآخر، وليس ذلك فى قسم منفصل من الرواية عن قسم كتب فيه شاهر حكايته كُتِب هذا من قبل الذى يحدث هنا وهو الجديد فى الأمر كله أننا نتابع الكتابة مع كل منهما يوما بيوم، نقرأ يومية من شاهر ثم أخرى من سيد، هكذا من بداية الرواية إلى نهايتها، نرى الحدث نفسه من عين شاهر، ثم نراه بعدها من عين سيد، ونصدق مع الكاتب أننا نقرأ روايتين مختلفتين فعلا لأحداث واحدة، وأن هذا الحدث يستدعى شيئا عند هذا الشخص مختلفا عما يستدعيه لدى الآخر تماما. فُندفع نحن إلى المقارنة الكاشفة. شاهر شاب، يخاف من البيروقراطية، نعم، لكنه محب للحياة وما زال لديه بعض الأمل فى أن ينصلح شىء، هو مثقف ولكنه ليس كمثقف الستينيات أو التسعينيات، وإن بدا بطبيعة الحال أقرب إلى الأخير بلامبالاته وكفره بالدولة ونفض يده من أنها لن تكترث بأى حال لمكتبة يزورها فى اليوم عشرة قراء تعترض خط المترو. لكنه مختلف عن مثقف التسعينيات بإدمانه للملفات وتتبع الأسرار. أما سيد فهو جيل آخر، ونفسية أخرى، يبدو كارها للحياة ومتابعا لأخطاء الناس ومحتفظا لكل بملف يقبضه فى يده، متربص تجاه الآخرين جميعا، بمن فيهم شاهر نفسه ذلك الولد الصغير الذى يخفى سرا كبيرا، يلوم مدير المكتبة لأنه يتلقى تمويلا أجنبيا، وبمجرد أن يتلقى منه دعوة لحضور افتتاح معرض كبير يبدو راضيا عنه ومتسامحا معه.. هل هذا تطور فى شخصيته حدث مع الخطر الداهم الذى شعر به تجاه المكتبة التى تجمعهم كمأوى أم أنه أصلا كذلك؟ الإجابة عند محمد ربيع. سيد هو الآخر ساخر ولكنها الكوميديا السوداء بمعناها المتعارف عليه بما فيها من مسحة «نوار». لقد أتاح ذلك البناء بإيقاعه اللاهث لمحمد ربيع أن يقبض على القارئ ولا يفلته، وأتاح له تتبع المكتبة أن يستعرض معرفة عالية بالكتب على لسان كل من بطليه بدت أحيانا على لسان ربيع أكثر من أى منهما. وبعد.. كانت اللغة بالإضافة إلى كل ذلك هما كبيرا من هموم الروائى يناقش اختلافات حولها ويسعى لاستعراض جذور لمعانى كلماتها (مفردة النسخ مثلا)، بل والإضافة إليها (مفردة أجوجل مثلا، وهى مفردة بدأت تستخدم فى عدد من اللغات). بل إن اختياره اللغوى ذاته استفاد من خبرة كتابة مصرية ممتدة، أستطيع ببعض الجرأة أن أنسبها إلى لغة تجمع بين اجتهاد يحيى حقى بين التفصيح والتعميم، ونوع السعى وراء الجذور لإضافة معان محدثة عليها بالمعنى الذى نراه عند عبدالحكيم قاسم. «كوكب عنبر» هى فى كل الأحوال رواية ممتعة، تكشف طبقات السرد فيها عن تناقضات عميقة بين شخوصها يخلص فيها الكاتب محمد ربيع إلى حلول درامية ولغوية تنطوى على قدر كبير من الطموح، تحقق منه أكثر ما يتحقق عادة فى رواية أولى.