تحتفظ كريمة يونس، الطبيبة الستينية، بكشكول خاص تعتقد أنه ساعدها اليمنى فى المطبخ.تدون فيه بدقة وصفات الأطباق التى تعلمتها فى غضون عقد من الزمن من الفضائيات. استطاعت كريمة أن تجمع عددا لا بأس به من الوصفات الجديدة، من برنامج «صحى ومفيد» الذى كانت تقدمه منى عامر مرورا ببرنامج «مع أسامة أطيب» على قناة دبى إلى «طبق من كل مكان» الذى يقدمه شريف مدكور على الفضائية المصرية وصولا ل«مطبخ منال» الذى يذاع على أبوظبى وأخيرا قناة فتافيت. تحفظ عن ظهر قلب مواعيد بث برامج الطهى وتسعى لاقتفاء أثر أى برنامج وليد حتى تتمكن من بث دماء جديدة فى أوصال مطبخها. تعتقد كريمة أن الفضائيات فتحت نافذة لسيدة البيت كى تمد عنقها خارج نطاق الأطباق المصرية، فالأسرة المصرية تحتاج للتجديد من وقت لآخر خاصة أن المطبخ المصرى يفتقد للتنوع. فى الواقع يعتبر المطبخ المصرى صاحب أطول تاريخ مسجل ومعروف للباحثين والعامة معا حيث يعكس التركيب الديموغرافى والهيكل السكانى كما يقول المؤرخ الكبير جمال حمدان فى كتابه شخصية مصر. ويظهر هذا فى نوعية الأوانى والمأكولات المحفورة على جدران المعابد القديمة. فرائحة المطبخ المصرى تعبق بروائح الشواء، والطيور واللحوم «المحمرة» وطواجن «الأرز المعمر»، وصوانى الرقاق المصنوع من القمح، وكما عاشت حتى الآن أكلات فرعونية كالعدس والبصارة وأكل «الفسيخ» والبصل والبيض فى «شم النسيم». حتى الأكلات الأحدث يمتد عمرها لأكثر من مائة عام كالكشرى والطّرب. ورغم تأثر المطبخ المصرى بمطابخ الثقافات المختلفة التى نزحت إليه كضيفة أو غازية لكنه يفتقر أحيانا إلى بعض النواحى الصحية فضلا عن كونه محدودا. فلقد لاحظت الباحثة البريطانية «وينفريد بلاكمان» التى كتبت عن «فلاحى مصر» فى الفترة من 1920م 1926م أن المطبخ المصرى اتسم بثلاث سمات عامة: الأولى: غلبة ظاهرة «تسبيك» الأكل وليس «سلقه» كما فى غيره من المطابخ. الثانية: انخفاض المأكولات الواقية أو البنائية مثل اللحوم والألبان. الثالثة: ضعف العناصر الصحية بل ارتباط بعضها بأمراض بدنية معينة. ويبدو أن المطبخ مستقر كاستقرار النيل ذاته والثورة بقلب المائدة التى تعيش على وصفات الجدات ضرورة ملحة صحيا. كانت البداية ببرنامج صحى ومفيد، الذى قدمته منى عامر عام 1997 الذى لقى وقتئذ شعبية كبيرة. فقد كانت حقيبة مقدمته القادمة حينذاك من كندا عامرة بالأطباق الشهية التى جمعتها من خلال تجوالها فى البلدان المختلفة. عايشت منى عامر طهى أطباق جديدة فى عقر دارها وأتقنتها على يد نساء بلدتها. فقد تدربت على طهى الكبسة على الطريقة السعودية فضلا عن عدد من الأطباق المعروفة فى شرق آسيا. وفى ليبيا، أتقنت طهى الكسكسى الذى تعلمت من جارتها تحضيره من الألف إلى الياء. وفى كندا طرقت بابا جديدا لطهى الطعام منخفض السعرات. «تأثير صحى ومفيد، كان كبيرا وعظيما وربما سبب الصحوة الأولى لنا» على حد تعبير نجلاء، الموظفة الخمسينية التى تعتقد أن أهمية هذا البرنامج ترجع لأن مقدمته كانت تشرح للعامة فائدة وأهمية كل طبق ومكوناته المختلفة. وربما قد يكون عزوف كثيرات عن استخدام السمن واستبداله بزيت الزيتون الذى عددت مقدمة البرنامج فوائده هو أول تغيير جوهرى فى مطبخ كان السمن يعد عاموده الفقرى». تقول بسنت الخضرى، المهندسة الثلاثينية: «لقد ساهمت الفضائيات فى تعريفنا بمكونات جديدة للطهى. وعرفتنا على نوعية من الخضراوات ذات قيمة غذائية عالية مثل البروكلى على سبيل المثال ونبات الفينوكيا، التى لم نكن نعرفها. جلبت لنا بهارات جديدة من الهند وصلصات من أوروبا ومعدات جديدة للمطبخ من أمريكا فضلا عن طرق تقديم مبتكرة وجذابة كل ذلك أثرى المطبخ المصرى التقليدى وجعله أكثر حيوية». حتى الأطباق القديمة جدا مثل الطيور التى اعتاد المصرى تناولها عقب سلقها وشيّها فى المناسبات الدينية منذ القدم بدأت الفضائيات تعرض طرقا جديدة فى تحضيرها بعد حقنها بعصير البرتقال. ثمة نكهة جديدة بدأت تعرف طريقها إلى أطباق المصريين الذين بدورهم بدأوا يطوعون هذا التغيير بما يتفق وذوقهم. تعتقد ملك رشدى، أستاذة الاجتماع والباحثة فى الجامعة الأمريكية، أن هناك توجها عالميا للاهتمام بما يأكله الناس من أجل الحفاظ على صحتهم ولأن مصر ليست بمعزل عن هذا التطور الثقافى فقد بدأت تتفاعل معه خاصة عقب انتشار الفضائيات. هناك صناعات كثيرة أصبحت تستفيد من هذا التبادل الثقافى فى مجال المطبخ. وترعرعت سوق عملاقة مستفيدة من عولمة الغذاء. تضرب ملك رشدى مثالا لذلك: «أصبح تدوين وصفة أكل جديدة على منتج من معدات المطبخ أحد أهم الوسائل التسويقية». هل هو انصهار ثقافى فى «قدر واحد» تفرضه العولمة؟ من المستحيل، على حد تعبير هويدا معدة أحد برامج الطهى، أن تنصهر كل الخلافات الأثينية والثقافية وحواجز اللغة فى إناء واحد، فى حين أن الطبق الشهى قادر على أن يتخطى كل هذه العقبات ليفرض نفسه على مائدة الأسر المختلفة من طرف لآخر فى العالم.